أي أعطيناه نعمة من صحة وأمن وجدة وغيرها وأوصلناها إليه بحيث يجد لذتها فالإذاقة مجاز عن هذا الإعطاء ثُمَّ نَزَعْناها أي سلبنا تلك الرحمة مِنْهُ صلة النزع، والتعبير به للإشعار بشدة تعلقه بها وحرصه عليه إِنَّهُ لَيَؤُسٌ شديد اليأس كثيره قطوع رجائه من عود مثل تلك النعمة عاجلا أو آجلا بفضل الله تعالى لعدم صبره وتوكله عليه سبحانه وثقته به.
كَفُورٌ كثير الكفران لما سلف لله تعالى عليه من النعم، وتأخير هذا الوصف عن وصف يأسهم لرعاية الفواصل على أن اليأس من باب الكفران للنعمة السالفة أيضا وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ كصحة وأمن وجدة بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ كسقم وخوف وعدم، وفي إسناد الإذاقة إليه تعالى دون المس إشعار بأن إذاقة النعمة مقصودة بالذات دون مس الضر بل هو مقصود بالعرض، ومن هنا قال بعضهم: إنه ينبغي أن تجعل- من- في قوله سبحانه: مِنْهُ للتعليل أن نزعناها من أجل شؤمه وسوء صنيعه وقبح فعله ليكون منا، مِنْهُ مشيرا إلى هذا المعنى ومنطبقا عليه كما قال سبحانه: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء: ٧٩] ولا يخفى أن تفسير مِنْهُ بذلك خلاف الظاهر المتبادر ولا ضرورة تدعو إليه، وإنما لم يؤت ببيان تحول النعمة إلى الشدة وبيان العكس على طرز واحد بل خولف التعبير فيهما حيث بدىء في الأول بإعطاء النعمة وإيصال الرحمة ولم يبدأ في الثاني بإيصال الضر على نمطه تنبيها على سبق الرحمة على الغضب واعتناء بشأنها، وفي التعبير عن ملابسة الرحمة والنعماء بالذوق المؤذن على ما قيل بلذتهما وكونهما مما يرغب فيه وعن ملابسة الضراء بالمس المشعر بكونها في أدنى ما يطلق عليه اسم الملاقاة من مراتبها من اللطف ما لا يخفى، ولعله يقوي عظم شأن الرحمة.
وذكر البعض أن في لفظ الإذاقة والمس بناء على أن الذوق ما يختبر به الطعوم، والمس أول الوصول تنبيها على أن ما يجد الإنسان في الدنيا من المنح والمحن نموذج لما يجده في الآخرة، وأنه يقع في الكفران والبطر بأدنى شيء لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي أي المصائب التي تسوءني ولن يعتريني بعد أمثالها إِنَّهُ لَفَرِحٌ بطر بالنعمة مغتر بها، وأصله فارح إلا أنه حول لما ترى للمبالغة، وفي البحر أن فعلا بكسر العين هو قياس اسم الفاعل من فعل اللازم، وقرىء «فرح» بضم الراء كما تقول: ندس ونطس، وأكثر ما ورد الفرح في القرآن للذم فإذا قصد المدح قيد كقوله سبحانه: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران: ١٧٠] فَخُورٌ متعاظم على الناس بما أوتي من النعم مشغول بذلك عن القيام بحقها، واللام في لَئِنْ في الآيات والأربع موطئة للقسم، وجوابه سادّ مسدّ جواب الشرط كما في قوله:
لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ... وأمكنني منها إذن لا أقبلها
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا استثناء من الإنسان، وهو متصل إن كانت أل فيه لاستغراق الجنس، وهو الذي نقله الطبرسي مخالفا لابن الخازن عن الفراء، ومنقطع إن كانت للعهد إشارة إلى الإنسان الكافر مطلقا، وعن ابن عباس أن المراد منه كافر معين وهو الوليد بن المغيرة، وقيل: هو عبد الله بن أمية المخزومي، وذكره الواحدي، وحديث الانقطاع على الروايتين متصل، ونسب غير مقيد بهما إلى الزجاج والأخفش، وأيّا ما كان فالمراد صبروا على ما أصابهم من الضراء سابقا أو لاحقا إيمانا بالله تعالى واستسلاما لقضائه تعالى.
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ شكرا على نعمه سبحانه السابقة واللاحقة، قال المدقق في الكشف: لما تضمن اليأس عدم الصبر والكفران عدم الشكر كان المستثنى من ذلك ضده ممن اتصف بالصبر والشكر فلما قيل: إِلَّا الَّذِينَ إلخ كان بمنزلة إلا الذين صبروا وشكروا وذلك من صفات المؤمن، فكنى بهما عنه فلذا فسره الزمخشري بقوله: إلا الذين آمنوا، فإن عادتهم إذا أتتهم رحمة أن يشكروا وإذا زالت عنهم نعمة أن يصبروا فلذا حسنت الكناية به عن الإيمان، ثم عرض