وتعقبه الشهاب بأن قوله لا يطرد مما لا وجه له لأن مراد المبرد اشتماله على شيء من الأنواع السبعة ولا يخلو شيء من القرآن عنها، وادعاء تأخر نزول تلك الآية خلاف الظاهر، ومثله لا يقال بالرأي، وادعى أن الحق ما قاله المبرد من أنه عليه الصلاة والسلام تحداهم أولا بسورة مثله في النظم والمعنى، ثم تنزل فتحداهم بعشر سور مثله في النظم من غير حجر في المعنى، ويشهد له توصيفها بمفتريات، وأيد بعضهم نظر المبرد بأن التكليف في آية البقرة إنما كان بسبب الريب ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة، وهو في هذه الآية ليس إلا بسبب قولهم:
افْتَراهُ فكلفوا نحو ما قالوا، وفيه أن الأمر في سورة يونس كالأمر هنا مسبوق بحكاية زعمهم الافتراء قاتلهم الله تعالى مع أنهم لم يكلفوا إلا بنحو ما كلفوا به في آية البقرة على أن في قوله: ولا يزيل الريب إلخ منعا ظاهرا، وللعلامة الطيبي هاهنا كلام- زعم أنه الذي يقتضيه المقام- وهو على قلة جدواه لا وجه لما أسسه عليه كما بين ذلك صاحب الكشف.
هذا ونقل الإمام أنه استدل بهذه الآية على أن إعجاز القرآن بفصاحته لا باشتماله على المغيبات وكثرة العلوم إذ لو كان كذلك لم يكن لقوله سبحانه: مُفْتَرَياتٍ معنى أما إذا كان وجه الإعجاز الفصاحة صح ذلك لأن فصاحة الكلام تظهر إن صدقا وإن كذبا، واعترض عليه الفاضل الجلبي بما هو مبني على الغفلة عن معنى الافتراء والاختلاق، نعم ما ذكر إنما يدل على صحة كون وجه الإعجاز ذلك ولا يمنع احتمال كونه الأسلوب الغريب وعدم اشتماله على التناقض كما قيل به.
وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ أي استعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به من آلهتكم التي تزعمون أنها ممدة لكم في كل ما تأتون وما تذرون. والكهنة الذين تلجئون إلى آرائهم في الملمات ليسعدوكم في ذلك.
مِنْ دُونِ اللَّهِ متعلق- بادعوا- أي متجاوزين الله تعالى، وفيه على ما قال غير واحد إشارة إلى أنه لا يقدر على مثله إلا الله عز وجل إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أني افتريته، فإن ذلك يستلزم الإتيان بمثله وهو أيضا يستلزم قدرتكم عليه، وجواب إِنْ محذوف دل عليه المذكور قبل فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ الخطاب- على ما روي عن الضحاك- للمأمورين بدعاء من استطاعوا، وضمير الجمع الغائب عائد إلى من أي فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله تعالى إلى الإسعاد والمظاهرة على المعارضة لعلمهم بالعجز عنه وأن طاقتهم أقصر من أن تبلغه فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ أي ما أنزل إلا ملتبسا بعلمه تعالى لا بعلم غيره على ما تقتضيه كلمة أَنَّما فإنها تفيد الحصر كالمكسورة على الصحيح، قيل: وهو معنى قول من قال: أي ملتبسا بما لا يعلمه إلا الله تعالى ولا يقدر عليه سواه.
وادعى بعضهم أن الحصر إنما أفادته الإضافة كما في قوله تعالى: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً [الجن: ٢٦] والمراد بما لا يعلمه غيره تعالى الكيفيات والمزايا التي بها الإعجاز والتحدي، وذكر عدم قدرة غيره سبحانه مما يقتضيه السياق وإلا فالمذكور في النظم الكريم العلم دون القدرة، وقيل: ذاك لأن نفي العلم بالشيء يستلزم نفي القدرة لأنه لا يقدر أحد على ما لا يعلم، والجملة الشرطية داخلة في حيز القول وإيراد كلمة الشك مع الجزم بعدم الاستجابة من جهة من يدعونه تهكم بهم وتسجيل عليهم بكمال سخافة العقل، وترتيب الأمر بالعلم على مجرد عدم الاستجابة من حيث إنه مسبوق بالدعاء المسبوق بتعجيزهم واضطرارهم فكأنه قيل: فإن لم يستجيبوا لكم عند التجائكم إليهم بعد ما اضطررتم إلى ذلك وصاعت عليكم الحيل وعيت بكم العلل فَاعْلَمُوا إلخ أو من حيث إن من يدعونهم إلى المعارضة أقوى منهم في اعتقادهم فإذا ظهر عجزهم بعدم استجابتهم وإن كان ذلك قبل ظهور عجز أنفسكم يكون عجزهم أظهر وأوضح.