أيضا، والكلام في استدلال الأولين سيأتي إن شاء الله تعالى، وقوله سبحانه: وَأُمَمٌ بالرفع- وهو على ما ذهب إليه الزمخشري- مبتدأ، وجملة قوله تعالى: سَنُمَتِّعُهُمْ صفته، والخبر محذوف أي ومنهم أمم، وساغ ذلك لدلالة ما سبق عليه فإن إيراد الأمم المبارك عليهم المتشعبة منهم نكرة يدل على أن بعض من يتشعب منهم ليسوا على صفتهم، والمعنى ليس جميع من يتشعب منهم مشاركا له في السلام والبركات بل منهم أمم يمتعون في الدنيا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ فيها أو في الآخرة أو فيهما مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ وجوز أبو حيان أن يكون أُمَمٍ مبتدأ محذوف الصفة وهي المسوغة للابتداء بالنكرة، والتقدير وأمم منهم، وجملة سَنُمَتِّعُهُمْ هو الخبر كما قالوا: السمن منوان بدرهم، وأن يكون مبتدأ ولا يقدر له صفة والخبر أيضا سَنُمَتِّعُهُمْ ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل فكان مثل قول الشاعر:
إذا ما بكى من خلفها انحرفت له ... بشق وشق عندنا لم يحول
وقول القرطبي: إنه ارتفع أُمَمٍ على معنى ويكون أمم إن أراد به تفسير معنى فحسن وإن أراد الإعراب فليس يجيد لأن هذا ليس من مواضع إضمار يكون، وقال الأخفش: هذا كما تقول: كلمت زيدا وعمرو جالس يحتمل أن يكون من باب العطف، ويحتمل أن يكون الواو للحال وتكون الجملة هنا حالا مقدرة لأن وقت الأمر بالهبوط لم تكن تلك الأمم موجودة.
وقال أبو البقاء: إن أُمَمٍ معطوف على الضمير في اهْبِطْ والتقدير- اهبط أنت وأمم- وكان الفصل بينهما مغنيا عن التأكيد، وسَنُمَتِّعُهُمْ نعت لأمم، وفيه إن الذين كانوا مع نوح عليه السلام في السفينة كلهم مؤمنون لقوله تعالى: وَمَنْ آمَنَ ولم يكونوا قسمين كفارا ومؤمنين ليؤمر الكفار بالهبوط معه اللهم إلا أن يلتزم أن من أولئك المؤمنين من علم الله سبحانه أنه يكفر بعد الهبوط فأخبر عنهم بالحالة التي يؤولون إليها وفيه بعد.
وجوز أن تكون- من- في مِمَّنْ مَعَكَ بيانية أي وعلى أمم هم الذين معك، وسموا أمما لأنهم أمم متحزبة وجماعات متفرقة أو لأن جميع الأمم إنما تشعبت منهم فهم أمم مجازا فحينئذ يكون المراد بالأمم المشار إليهم في قوله سبحانه: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ بعض الأمم المتشعبة منهم وهي الأمم الكافرة المتناسلة منهم إلى يوم القيامة.
وفي الكشاف إن الوجه هو الأول قيل: ليقابل قوله تعالى: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ولأنه أشمل ولأن- من- الابتدائية لا سيما في المنكر أكثر وللنكتة في إدخال الناشئين في المسلم عليهم، وقطع الممتعين عنهم من الدلالة على ما صرح به في قوله سبحانه: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ولهذه النكتة حذف منهم في الثاني، واكتفى بسلام نوح عليه السلام عن سلام مؤمني قومه لأن النبي زعيم أمته وكفاهم هذا التعظيم والاتحاد معه عليه السلام، فلا يراد أن الحمل على البيانية أرجح لئلا يلزم أن لا يكون مسلما عليهم على أن لفظ الأمم في الإطلاق على من معه بأحد الاعتبارين لا فخامة فيه لأن تسمية الجماعة القليلة بالأمة لا يناسب فكيف بالأمم، ولا مبالغة في هذا المقام فيه فلا يعدل عن الحقيقة، وإن جعل من باب إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: ١٢٠] لم يلائم تفخيم نوح عليه السلام، وقد ذكر أنه يبقى على البيانية أمر الأمم المؤمنة الناشئة من الذين معه عليه السلام مبهما غير متعرض له ولا مدلول عليه إلا أن يقال:
حيث كان المراد بمن معك المؤمنين يعلم أن المشاركين لهم في وصف الإيمان مثلهم فيما تقدم، نعم قيل: إن في دلالة المذكور على الخبر المحذوف على ذلك الوجه خفاء لأن- من المذكورة بيانية، والمحذوفة تبعيضية، أو ابتدائية، وربما يجاب عنه أيضا بإلزام أن لا حذف أصلا كما هو أحد الأوجه التي ذكرناها آنفا فتدبر جميع ما ذكر.
والمأثور عدم تخصيص الأمم في الموضعين بمؤمنين معينين وكافرين كذلك، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر