فائدة الدعوة؟ لأنا نقول: الدعوة إلى الهادي من المضل. وإلى العدل من الجائر كما قال سبحانه: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً [مريم: ٨٥] انتهى بحروفه، وأعظم من هذا إشكالا التكليف مع القول بالوحدة وكذا التنعيم والتعذيب فإن الظاهر من التقرير لكلام المحققين من الصوفية أن المكلف عبارة عن موجود هو حصة من الوجود المطلق المفاض على حقائق الممكنات المتعين بتعينات مختلفة اقتضتها الاستعدادات الذاتية للحقائق التي هي المعدومات المتميزة في نفس الأمر المستعدة باستعدادات ذاتية غير مجعولة، فالمكلف مقيد من مقيدات الوجود المطلق المفاض، والمقيد لا يوجد بدون المطلق لأنه قيومه، والمطلق من حيث الإطلاق عين الحق، ولا شك أن قاعدة التكليف تقتضي أن يكون بينهما مغايرة ومباينة حقيقية ذاتية حتى يصح التكليف وما يترتب عليه من التعذيب والتنعيم.
وأجيب بأن حقيقة الممكن أمر معدوم متميز في نفسه بتميز ذاتي غير مجعول ووجوده خاص مقيد بخصوصية ما اقتضاها استعداده الذاتي لماهيته العدمية فهو مركب من الوجود والعدم وحقيقته مغايرة لوجوده تعقلا لتمايزهما ذهنا، ولا ينافي ذلك قول الأشعري: وجود كل شيء عين حقيقته لما بين في محله وحقيقة الحق تعالى لا تغاير وجوده ووجوده سبحانه هو الوجود المطلق بالإطلاق الحقيقي حسبما حققه محققو الصوفية، فالمغايرة الذاتية بين المكلف والمكلف في غاية الظهور لأن المكلف هو المعدوم اللابس لحصة من الوجود المتعين بمقتضى حقيقته، والمكلف سبحانه هو الحق عز وجل الذي هو عين الوجود المطلق الغير المقترن بماهية عدمية، وبعبارة أخرى: إن حقيقة الممكن أمر معدوم وحقيقة الواجب سبحانه الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق وقد وقع في البين تجلي الهوية في العبد وذلك التجلي هو الجامع للقدرة وغيرها من الكمالات التي يتوقف عليها التكليف بمقتضى الحكمة ومحقق للمغايرة.
وحاصل ذلك أن حقيقة المزج بين تجلي الهوية والصورة الخلقية المتعينة بمقتضى الحقيقة العدمية هي التي أحدثت ما به يصح التكليف وما يترتب عليه، وكون الحق سبحانه قيوما للوجود المقيد غير قادح في ذلك بل القيومية هي المصححة له لما تبين من النصوص أنه لا تكليف إلا بالوسع ولا وسع للممكن إلا بقيوميته تعالى بنص ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الكهف: ٣٩] وما هو بالله فهو لله تعالى، والبحث في ذلك طويل، وبعض كلماتهم يتراءى منهم عدم المغايرة بين المكلف والمكلف من ذلك ما قيل:
لقد كنت دهرا قبل أن يكشف الغطا ... إخالك أني ذاكر لك شاكر
فلما أضاء الليل أصبحت شاهدا ... بأنك مذكور وذكر وذاكر
لكن ينبغي أن لا يبادر سامعها بالإنكار، ويرجع في المراد منها إلى العارفين بدقائق الأسرار، هذا وقد تقدم الكلام في ناقة صالح عليه السلام، وفيما قص الله تعالى هاهنا عن إبراهيم عليه السلام إشارة إلى بعض آداب الفتوة، فقد قالوا: إن من آدابها إذا نزل الضيف أن يبدأ بالكرامة في الإنزال ثم يثني بالكرامة بالطعام، وإنما أوجس عليه السلام في نفسه خيفة لأنه ظن الغضب، والخليل يخشى غضب خليله ومناه رضاه، ولله در من قال:
لعلك غضبان ولست بعالم ... سلام على الدارين إن كنت راضيا
وفي هذه القصة دليل على أنه قد ينسد باب الفراسة على الكاملين لحكم يريدها الله تعالى، ومن ذلك لم يعرف إبراهيم وكذا لوط عليهما السلام الملائكة عليهم السلام في أول الأمر، وكانت مجادلته عليه السلام من آثار مقام الإدلال على ما قيل، وقوله تعالى عن لوط عليه السلام: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ قيل:
يشير بالقوة إلى الهمة وهي عندهم القوة المؤثرة في النفوس لأن القوة منها جسمانية ومنها روحانية، وهذه المسماة بالهمة وهي أقوى تأثيرا لأنها قد تؤثر في أكثر العالم. أو كله بخلاف الجسمانية، وقصد عليه السلام بالركن الشديد