بحث لأنهم صرحوا بأن فائدة التأكيد بكل وأجمعين- دفع توهم عدم الشمول والإحاطة بجميع الأفراد، وما ذكره من المثالين فإنما نشأ شمول الأصناف فيه من إضافة لفظ الجميع إلى الأصناف كيف ولو قيل: ملأت الجراب من جميع الطعام بإسقاط لفظ الأصناف كان الكلام فيه كالكلام فيما نحن فيه، وأيضا ما ذكره من أن في ذلك ردا على اليهود إلخ غير صحيح لأن اليهود قالوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: ٨٠] فكيف يزعمون أنهم لا يدخلونها أصلا فتدبر ذاك والله سبحانه يتولى هداك.
وأجاب بعضهم بمنزع صوفي وهو أن المراد من الجنة والنار الذين بقوا في مرتبة الجنية والإنسية حيث انغمسوا في ظلمات الطبيعة وانتكبوا في مقر الأجرام العنصرية ولم يرفعوا إلى العالم الأعلى واطمأنوا بالحياة الدنيا ورضوا بها وانسلخوا عن عالم المجردات وهم المشركون الذين قيل في حقهم: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [التوبة: ٢٨] إلخ فإنهم لا يستأهلون دار الله تعالى وقربه، ثم قال: ولهذا ترى الله تعالى شأنه يذم الإنسان ويدعو عليه في غير ما موضع وَكُلًّا أي وكل نبأ فالتنوين للتعويض عن المضاف إليه المحذوف، ونصب- كل- على أنه مفعول به لقوله سبحانه: نَقُصُّ عَلَيْكَ أي نخبرك به، وقوله تعالى: مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ صفة لذلك المحذوف لا- لكلا- لأنها لا توصف في الفصيح كما في إيضاح المفصل، ومِنْ تبعيضية، وقيل: بيانية، وقوله عزّ وجلّ: ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ قيل: عطف بيان- لكلا- بناء على عدم اشتراط توافق البيان والمبين تعريفا وتنكيرا، المعنى هو ما نثبت إلخ.
وجوز أن يكون بدلا منه بدل كل أو بعض، وفائدة ذلك التنبيه على أن المقصود من الاقتصاص زيادة يقينه صلى الله تعالى عليه وسلم وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة واحتمال أذى الكفار، وجوز أيضا أن يكون مفعول نَقُصُّ وَكُلًّا حينئذ منصوب إما على المصدرية أي كل نوع من أنواع الاقتصاص نَقُصُّ عَلَيْكَ الذي نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ من أنباء الرسل، وإما على الحالية من ما أو من الضمير المجرور في بِهِ على مذهب من يرى جواز تقديم حال المجرور بالحرف عليه، وهو حينئذ نكرة بمعنى جميعا أي نقص عليك من أنباء الرسل الأشياء التي نثبت بها فؤادك جميعا.
واستظهر أبو حيان كون كُلًّا مفعولا به لنقص، ومِنْ أَنْباءِ في موضع الصفة له وهو مضاف في التقدير إلى نكرة، وما صلة كما هي في قوله تعالى: قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ [الأعراف: ٣] ولا يخفي ما فيه.
وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ أي الأمر الثابت المطابق للواقع، والإشارة بهذه إلى السورة كما جاء ذلك من عدة طرق عن ابن عباس وأبي موسى الأشعري وقتادة وابن جبير.
وقيل: الإشارة إليها مع نظائرها وليس بذاك ككونها إشارة إلى دار الدنيا، وإن جاء في رواية عن الحسن، وقيل:
إلى الأنباء المقتصة وهو مما لا بأس به وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ عطف على الْحَقُّ أي جاءك الجامع المتصف حقا في نفسه وكونه موعظة وذكرى للمؤمنين، ولعل تحلية الوصف الأول باللام دون الأخيرين لما قيل: من أن الأول حال للشيء في نفسه والأخيران وصفان له بالقياس إلى غيره.
وقال الشهاب: الظاهر أن يقال إنما عرف الأول لأن المراد منه ما يختص بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم من إرشاده الى الدعوة وتسليته بما هو معروف معهود عنده، وأما الموعظة والتذكير فأمر عام لم ينظر فيه لخصوصية، ففرق بين الوصفين للفرق بين الموصوفين، وفي التخصيص بهذه السورة ما يشهد له لأن مبناها على إرشاده صلى الله تعالى عليه وسلم على ما سمعت عن صاحب الكشف، وتقديم الظرف على الفاعل ليتمكن المؤخر عنه وروده أفضل تمكن ولأن في المؤخر نوع طول يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم.