للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأجيب عما ذكره أولا بأنه غير وارد لأن تلك الحالة السريعة لا تحتمل إلا أيسر ما يمكن وأسرعه، وعلى تقدير اتباعها له تعين القدّ من دبر لأنه أهون الجذبين، ثم لا نفرض كر الفار ليدفعها أو كما لحقت جذبت فهذا الفرض لا وجه له هنالك فإذا ثبت دلالته في الجملة على هذا القسم تعينت، وعما ذكره ثانيا بأن الظاهر على تقدير أن تكون تابعة أنه إذا تعثر الفار يتعلق به التابع متشبثا وإذا كانا منفلتين بعد ذلك الاحتمال.

وذكر الفاضل المتعقب أن الحق في هذا الفصل أن يقال: إن الشاهد المذكور إن كان صبيا أنطقه الله تعالى في المهد كما ورد في بعض الأحاديث فالآية في مجرد كلامه قبل أوانه حتى لو قال صدق يوسف وكذبت لكفى برهانا على صدقه عليه السلام كما كان مجرد إخبار عيسى عليه السلام في المهد برهانا على صدق مريم، فلا تنبغي المناسبة بين الأمارة المنصوبة وما رتب عليها لأن العمدة (١) في الدلائل نصبها لا مناسبتها، وإن كان قريبا لها قد بصر بها من حيث لا تشعر فهذا- والله تعالى أعلم- كان من حقه أن يصرح بما رأى فيصدق يوسف عليه السلام ويكذبها ولكنه أراد أن لا يكون هو الفاضح لها، ووثق بأن قدّ قميصه إنما كان من دبر فنصبه أمارة لصدقه وكذبها، ثم ذكر القسم الآخر وهو قده من قبل على علم بأنه لم ينقد كذلك حتى ينفي عن نفسه التهمة في الشهادة وقصد الفضيحة وينصفهما جميعا فلذا ذكر أمارة على صدقها المعلوم نفيه كما ذكر أمارة على صدقه المعلوم وجوده، وأخرجهما مخرجا واحدا وبنى قُدَّ لما لم يسم فاعله في الموضعين سترا على من قدّه، وقدم أمارة صدقها في الذكر إزاحة للتهمة ووثوقا بأن الأمارة الثانية هي الواقعة فلا يضره تأخيرها.

والحاصل أن عمدة هذا الشاهد الأمارة الأخيرة فقط والمناسبة فيها محققة، وأما الأمارة الأولى فليست مقصودة وإنما هي كالغرض ذكرت توطئة للثانية فلم يلتمس لها مناسبة مثل تلك المناسبة، وأما إن كان الحكيم الذي كان الملك يرجع الى رأيه فلا بد من التماس المناسبة في الطرفين لأنها عمدة الحكيم، وأقرب وجه في المناسبة أن قدّ القميص من دبر دليل على إدباره عنها، وقدّه من قبل دليل على إقباله عليها بوجهه، ولا يخفى أن مثل هذا الوجه لا يصلح أن يكون مطمح نظر الحكيم الذي لا يلتفت إلا لليقينيات، فالأولى أن يقال: يحتمل أن ذلك الحكيم كان واقفا على حقيقة الحال بطريق من الطرق الممكنة، ويسهل أمر ذلك إذا قلنا: إنه كان ابن عم لها فهو متيقن بعدم مقدم الشرطية الأولى وبوجود مقدم الشرطية الثانية، ومن ضروريات ذلك الجزم بانتفاء تالي الأولى ووقوع تالي الثانية فإذا هو إخبار بكذبها وصدقه عليه السلام لكنه ساق شهادته مساقا مأمونا من الجرح والطعن حيث صورها بصورة الشرطية المترددة ظاهرا بين نفعها ونفعه، وأما حقيقة فلا تردد فيها قطعا كما أشير إليه، وإلى كون الشرطية الأولى غير مقصودة بالذات ذهب العلامة ابن الكمال معرضا بغفلة القاضي البيضاوي حيث قال: إن قوله تعالى: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ إلخ من قبيل المسامحة في أحد شقي الكلام لتعين الآخر عند القاتل تنزيلا للمحتمل منزلة الظاهر لأن الشق بالجذب في هذا الشق أيضا محتمل، ومن غفل عن هذا قال: لأنه يدل على أنه قصدها فدفعت عن نفسها إلى آخر عبارة البيضاوي، وحاصل ذلك على ما قرره بعض مشايخنا عليهم الرحمة أن القائل: يعلم يقينا وقوع الشق من دبر لكنه ذكر الشق من القبل مع أنه محتمل أن يكون بجذبها إياه إلى طرفها كما أن كونه من دفعها إياه من بعض محتملاته تنزيلا لهذا المحتمل منزلة الظاهر تأكيدا ومبالغة لثبوت ما دلت عليه الشرطية الثانية من صدقه وكذبها يعني أنا نحكم بصدقها وكذبه بمجرد وقوع الشق في القبل، وإن كان محتملا لأسباب أخر غير دفعها لكنه ما وقع هذا الشق


(١) قيل: إن التصوير بصورة الشرطية على هذا الشق للإيذان بأن ذلك من العلائم أيضا اهـ منه.

<<  <  ج: ص:  >  >>