للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أن بعض العائنين قد يصيب ما يوصف له ويمثل ولو كان بينه وبينه فراسخ، والتزام امتداد تلك للأجزاء إلى حيث المصاب مما لا يكاد يقبل (١) كما لا يخفى على ذي عين. وقال الحكماء واختاره بعض المحققين من أهل السنة: إن ذلك من تأثير النفساني بالجسماني وبنوه على أنه ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة بل قد يكون التأثير نفسيا محضا كما يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل عرض إذا كان موضوعا على الأرض يقدر كل إنسان على المشي عليه ولو كان موضوعا بين جدارين مرتفعين لم يقدر كل أحد على المشي عليه وما ذاك إلا لأن الخوف من السقوط منه يوجب السقوط وأيضا إن الإنسان إذا تصور أن فلانا مؤذيا له حصل في قلبه غضب وتسخن مزاجه، فمبدأ ذلك ليس إلا التصور النفساني بل مبدأ الحركات البدنية مطلقا ليس إلا التصورات النفسانية، ومتى ثبت أن تصور النفس يوجب تغير بدنه الخاص لم يبعد أيضا أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدى تأثيراتها إلى سائر الأبدان، وأيضا جواهر النفوس مختلفة فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث تؤثر في تغير بدن حيوان آخر بشرط أن تراه أو ترى مثاله على ما نقل وتتعجب منه، ومتى ثبت أن ذلك غير ممتنع وكانت التجارب شاهدة بوقوعه وجب القول به من غير تلعثم، ولأن وقوع ذلك أكثري عند اعمال العين والنظر بها إلى الشيء نسب التأثير إلى العين والا فالمؤثر إنما هو النفس، ونسبة التأثير إليها كنسبة الإحراق إلى النار والري إلى الماء ونحو ذلك، والفاعل للآثار في الحقيقة هو الله عز سلطانه بالإجماع، لكن جرت عادته تعالى على خلقها بالأسباب من غير توقف عقلي عليها كما يظن جهلة الفلاسفة على ما نقل عن السلف أو عند الأسباب من غير مدخلية لها بوجه من الوجوه على ما شاع عن الأشعري.

فمعنى

قوله عليه الصلاة والسلام: «العين حق»

أن إصابة النفس بواسطتها أمر كائن مقتضي به في الوضع الإلهي لا شبهة في تحققه وهو كسائر الآثار المشاهدة لنحو النار والماء والأدوية مثلا. وأنت تعلم أن مدار كل شيء المشيئة الإلهية فما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن، وحكمة خلق الله تعالى التأثير في مسألة العين أمر مجهول لنا.

وزعم أبو هاشم وأبو القاسم البلخي أن ذلك مما يرجع إلى مصلحة التكليف قالا: لا يمتنع أن تكون العين حقا على معنى أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به استحسانا كان المصلحة له في تكليفه أن يغير الله تعالى ذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف متعلقا به، ثم لا يبعد أيضا أنه لو ذكر ربه عند تلك الحالة وعدل عن الاعجاب وسأل ربه سبحانه بقاء ذلك تتغير المصلحة فيبقيه الله تعالى ولا يفنيه وهو كما ترى، ثم إن ما أشار إليه من نفع ذكر الله تعالى والالتجاء إليه سبحانه حق، فقد صرحوا بأن الأدعية والرقي من جملة الأسباب لدفع أذى العين بل إن من ذلك ما يكون سببا لرد سهم العائن إليه. فقد أخرج ابن عساكر أن سعيد الساجي قيل له: احفظ ناقتك من فلان العائن فقال:

لا سبيل له إليها فعانها فسقطت تضطرب فأخبر الساجي فوقف عليها فقال: حبس حابس وشهاب قابس رددت عين العائن عليه وعلى أحب الناس إليه وعلى كبده وكليتيه رشيق وفي ماله يليق فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك: ٣] الآية فخرجت حدقتا العائن وسلمت الناقة.

ويدل على نفع الرقية من العين مشروعيتها كما تدل عليه الآثار،

وقد جاء في بعضها أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا رقية إلا من عين أو حمة»

والمراد منه أنه لا رقية أولى وأنفع من رقية العين والحمة وإلا فقد رقى صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه من


(١) ومثله ما يقال من ذهابها كالسهم كما قيل:
سهم أصاب وراميه بذي سلم ... من بالعراق لقد أبعدت مرماك

<<  <  ج: ص:  >  >>