التغير أزلا وأبدا كذلك الأعيان الثابتة التي هي ظلالها وصورها يمتنع عليها أن تتغير عن الأحكام التي هي عليها في حد نفسها، فالقضاء هو الحكم الكلي على أعين الموجودات بأحوال جارية وأحكام طارئة عليها من الأزل إلى الأبد، والقدر تفصيل هذا الحكم الكلي بتخصيص إيجاد الأعيان وإظهارها بأوقات وأزمان يقتضي استعدادها الوقوع فيها وتعليق كل حال من أحوالها بزمان معين وسبب مخصوص، وسر القدر هو أن يمتنع أن يظهر عين من الأعيان إلا على حسب ما يقتضيه استعداده، وسر سر القدر هو أن تلك الاستعدادت أزلية غير مجعولة بجعل الجاعل لكون تلك الأعيان ظلال شؤونات ذاتية مقدسة عن الجعل والانفعال، ولا شك أن الحكم الكلي على الموجودات تابع لعلمه تعالى بأعيانها الثابتة، وعلمه سبحانه بتلك الأعيان تابع لنفس تلك الأعيان إذ لا أثر للعلم الأزلي في المعلوم بإثبات أمر له لا يكون ثابتا أو بنفي أمر عنه يكون ثابتا بل علمه تعالى بأمر ما إنما يكون على وجه يكون هو في حد ذاته على ذلك الوجه، وأما الأعيان فقد عرفت أنها ظلال لأمور أزلية مقدسة عن شوائب التغير فكانت أزلا، فالله تعالى علم بها كما كانت وقضى وحكم كما علم وقدر وأوجد كما قضى وحكم، فالقدر تابع للقضاء التابع للعلم التابع للمعلوم التابع لما هو ظل له فإليه سبحانه يرجع الأمر كله فيمتنع أن يظهر خلاف ما علم فلذا يلغو الحذر، لكن أمر به رعاية للأسباب فإن تعطيلها مما يفوت انتظام أمر هذه النشأة، ولذا
ورد أن نبيا من الأنبياء عليهم السلام ترك تعاطي أسباب تحصيل الغذاء وقال: لا أسعى في طلب شيء بعد أن كان الله تعالى هو المتكفل برزقي ولا آكل ولا أشرب ما لم يكن سبحانه هو الذي يطعمني ويسقيني فبقي أياما على ذلك حتى كادت تغيظ نفسه مما كابده فأوحى إليه سبحانه يا فلان لو بقيت كذلك إلى يوم القيامة ولم تتعاط سببا ما رزقتك أتريد أن تعطل أسبابي؟.
وقال بعض المحققين: إن سبب إيجاب الحذر أن كثيرا من الأمور قضي معلقا ونيط تحصيله بالأفعال الاختيارية للبشر بترتيب أسبابه ودفع موانعه فيمكن أن يكون الحفظ عن المكروه من جملة ما نيط بفعل اختياري وهو الحذر وهو لا يأبى ما قلناه كما لا يخفى «هذا» .
وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن القدر مرتبة بين الذات والمظاهر ومن علم الله تعالى علمه ومن جهله سبحانه جهله والله تعالى شأنه لا يعلم فالقدر أيضا لا يعلم، وإنما طوى علمه حتى لا يشارك الحق في علم حقائق الأشياء من طريق الإحاطة بها إذ لو علم أي معلوم كان بطريق الإحاطة من جميع وجوهه كما يعلمه الحق لما تميز علم الحق عن علم العبد بذلك الشيء ولا يلزمنا على هذا الاستواء فيما علم منه، فإن الكلام فيما علم كذلك، فإن العبد جاهل بكيفية تعلق العلم مطلقا بمعلومه فلا يصح أن يقع الاشتراك مع الحق في العلم بمعلوم ما، ومن المعلومات العلم بالعلم، وما من وجه من المعلومات إلا وللقدر فيه حكم لا يعلمه إلا هو سبحانه فلو علم القدر علمت أحكامه ولو علمت أحكامه لاستقل العبد في العلم بكل شيء وما احتاج إليه سبحانه في شيء وكان له الغنى على الإطلاق، وسر القدر عين تحكمه في الخلائق، وأنه لا ينكشف لهم هذا السر حتى يكون الحق بصرهم.
وقد ورد النهي عن طلب علم القدر
وفي بعض الآثار أن عزيزا عليه السلام كان كثير السؤال عنه إلى أن قال الحق سبحانه له: يا عزيز لئن سألت عنه لأمحون اسمك من ديوان النبوة،
ويقرب من ذلك السؤال عن علل الأشياء في مكنوناتها، فإن أفعال الحق لا ينبغي أن تعلل فإن ما ثم علة موجبة لتكوين شيء إلا عين وجود الذات وقبول عين الممكن لظهور الوجود، والأزل لا يقبل السؤال عن العلل، والسؤال عن ذلك لا يصدر إلا عن جاهل بالله تعالى فافهم ذاك والله سبحانه يتولى هداك وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى أي ضم إِلَيْهِ أَخاهُ بنيامين، قال المفسرون: إنهم لما دخلوا عليه عليه السلام قالوا: أيها الملك هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به قد جئناك به فقال لهم: أحسنتم