تحياتك أيضا. وأيّا ما كان ففي القسم بها معنى التعجب كأنهم تعجبوا من رميهم بما ذكر مع ما شاهدوه من حالهم، فقد روي أنهم كانوا يعكمون (١) أفواه إبلهم لئلا تنال من زروع الناس وطعامهم شيئا واشتهر أمرهم في مصر بالعفة والصلاح والمثابرة على فنون الطاعات، ولذا قالوا: لَقَدْ عَلِمْتُمْ علما جازما مطابقا للواقع ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ أي لنسرق فإن السرقة من أعظم أنواع الإفساد أو لنفسد فيها أي إفساد كان فضلا عما نسبتمونا إليه من السرقة، ونفي المجيء للإفساد وإن لم يكن مستلزما لما هو مقتضى المقام من نفي الإفساد مطلقا لكنهم جعلوا المجيء الذي يترتب عليه ذلك ولو بطريق الاتفاق مجيئا لغرض الإفساد مفعولا لأجله ادعاء إظهارا لكمال قبحه عندهم وتربية لاستحالة صدوره عنهم فكأنهم قالوا: إن صدر عنا إفساد كان مجيئنا لذلك مريدين به تقبيح حاله وإظهار كمال نزاهتهم عنه كذا قيل.
وقيل: إنهم أرادوا نفي لازم المجيء للإفساد في الجملة وهو تصور الإفساد مبالغة في نزاهتهم عن ذلك فكأنهم قالوا: ما مر لنا الإفساد ببال ولا تعلق بخيال فضلا عن وقوعه منا ولا يخفى بعده وَما كُنَّا سارِقِينَ أي ما كنا نوصف بالسرقة قط، والظاهر دخول هذا في حيز العلم كالأول، ووجهه أن العلم بأحوالهم المشاهدة يستلزم العلم بأحوالهم الفائتة، والحلف في الحقيقة على الأمرين اللذين في حيز العلم لا على علم المخاطبين بذلك إلا أنهم ذكروه للاستشهاد وتأكيد الكلام، ولذا أجرت العرب العلم مجرى القسم كما في قوله:
ولقد علمت لتأتين منيتي ... إن المنايا لا تطيش سهامها
وفي ذلك من إلزام الحجة عليهم وتحقيق أمر التعجب المفهوم من تاء القسم من كلامهم كما فيه، وذكر بعضهم أنه يجوز أن يكون كما جئنا إلخ متعلق العلم وأن يكون جواب القسم أو جواب العلم لتضمنه معناه وهو لا يأبي ما تقدم قالُوا أي أصحاب يوسف عليه السلام فَما جَزاؤُهُ أي الصواع، والكلام على حذف مضاف أي ما جزاء سرقته، وقيل: الضمير لسرق أو للسارق والجزاء يضاف إلى الجناية حقيقة وإلى صاحبها مجازا، وقد يقال:
بحذف المضاف فافهم والمراد فما جزاء ذلك عندكم وفي شريعتكم إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ أي في ادعاء البراءة كما هو الظاهر، وفي التعبير- بإن- مراعاة لجانبهم قالُوا أي الإخوة جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ أي أخذ من وجد الصواع فِي رَحْلِهِ واسترقاقه، وقدر المضاف لأن المصدر لا يكون خبرا عن الذات ولأن نفس ذات من وجد في رحله ليست جزاء في الحقيقة، واختاروا عنوان الوجدان في الرحل دون السرقة مع أنه المراد لأن كون الأخذ والاسترقاق سنة عندهم ومن شريعة أبيهم عليه السلام إنما هو بالنسبة إلى السارق دون من وجد عنده مال غيره كيفما كان إشارة إلى كمال نزاهتهم حتى كأن أنفسهم لا تطاوعهم وألسنتهم لا تساعدهم على التلفظ به مثبتا لأحدهم بأي وجه كان وكأنهم تأكيدا لتلك الإشارة عدلوا عمن وجد عنده إلى من وجد في رحله فَهُوَ جَزاؤُهُ أي فأخذه جزاؤه وهو تقدير للحكم السابق بإعادته كما في قولك: حق الضيف أن يكرم فهو حقه وليس مجرد تأكيد، فالغرض من الأول إفادة الحكم ومن الثاني إفادة حقيته والاحتفاظ بشأنه كأنه قيل: فهذا ما تلخص وتحقق للناظر في المسألة لا مرية فيه، قيل:
وذكر الفاء في ذلك لتفرعه على ما قبله ادعاء وإلا فكان الظاهر تركها لمكان التأكيد، ومنه يعلم أن الجملة المؤكدة قد تعطف لنكتة وإن لم يذكره أهل المعاني، وجوز كون مَنْ موصولة مبتدأ وهذه الجملة خبره والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط وجملة المبتدأ وخبره خبر جَزاؤُهُ. وأن تكون مَنْ شرطية مبتدأ ووُجِدَ فِي رَحْلِهِ فعل
(١) وليتهم قد كانوا عكموا فم ذئبهم عن أكل يوسف عليه السلام اه منه.