يعقوب عليه السلام حين أصابه ما أصابه لم يسترجع وقال ما قال، وفي أَسَفى ويُوسُفَ تجنيس نفيس من غير تكلف وهو مما يزيد الكلام الجليل بهجة وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ أي بسببه وهو في الحقيقة سبب للبكاء والبكاء سبب لا بيضاض عينه فإن العبرة إذا كثرت محقت سواد العين وقلبته إلى بياض كدر فأقيم سبب السبب مقامه لظهوره، والابيضاض قيل إنه كناية عن العمى فيكون قد ذهب بصره عليه السلام بالكلية واستظهره أبو حيان لقوله تعالى: فَارْتَدَّ بَصِيراً [يوسف: ٩٦] وهو يقابل بالأعمى، وقيل: ليس كناية عن ذلك والمراد من الآية أنه عليه السلام صارت في عينيه غشاوة بيضتهما وكان عليه السلام يدرك إدراكا ضعيفا، وقد تقدم الكلام في حكم العمى بالنسبة إلى الأنبياء عليهم السلام، وكان الحسن ممن يرى جوازه.
فقد أخرج عبد الله بن أحمد في زوائده وابن جرير وأبو الشيخ عنه قال: كان منذ خرج يوسف من عند يعقوب عليهما السلام إلى يوم رجع ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه ودموعه تجري على خديه ولم يزل يبكي حتى ذهب بصره وما على الأرض يومئذ والله أكرم على الله تعالى منه، والظاهر أنه عليه السلام لم يحدث له هذا الأمر عند الحادث الأخير، ويدل عليه ما
أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ليث بن أبي سليم أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام في السجن فعرفه فقال له: أيها الملك الكريم على ربه هل لك علم بيعقوب؟ قال: نعم. قال: ما فعل؟ قال: ابيضت عيناه من الحزن عليك قال: فما بلغ من الحزن؟ قال: حزن سبعين مثكلة قال: هل له على ذلك من أجر؟ قال: نعم أجر مائة شهيد.
وقرأ ابن عباس ومجاهد مِنَ الْحُزْنِ بفتح الحاء والزاي وقرأ قتادة بضمهما.
واستدل بالآية على جواز التأسف والبكاء عند النوائب، ولعل الكف عن أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد.
وقد روى الشيخان من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم بكى على ولده إبراهيم وقال: «إن العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون»
وإنما المنهي عنه ما يفعله الجهلة من النياحة ولطم الخدود والصدور وشق الجيوب وتمزيق الثياب.
ورويا أيضا من حديث أسامة أنه صلى الله عليه وسلم رفع إليه صبي لبعض بناته يجود بنفسه فأقعده في حجره ونفسه تتقعقع كأنها في شن ففاضت عيناه عليه الصلاة والسلام فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟
فقال: هذه رحمة جعلها الله تعالى فيمن شاء من عباده وإنما يرحم الله تعالى من عباده الرحماء. وفي الكشاف أنه قيل له عليه الصلاة والسلام: تبكي وقد نهيتنا عن البكاء؟ قال: ما نهيتكم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين صوت عند الفرح وصوت عند الترح وعن الحسن أنه بكى على ولد أو غيره فقيل له في ذلك فقال: ما رأيت الله تعالى جعل الحزن عارا على يعقوب عليه السلام فَهُوَ كَظِيمٌ
أي مملوء من الغيظ على أولاده ممسك له في قلبه لا يظهره، وقيل: مملوء من الحزن ممسك له لا يبديه، وهو من كظم السقاء إذا شده بعد ملئه، ففعيل بمعنى مفعول أي مكظوم فهو كما جاء في يونس عليه السلام إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ [القلم: ٤٨] ويجوز أن يكون بمعنى فاعل كقوله تعالى وَالْكاظِمِينَ [آل عمران: ١٣٤] من كظم الغيظ إذا تجرعه أي شديد التجرع للغيظ أو الحزن لأنه لم يشكه إلى أحدا قط، وأصله من كظم البعير جرته إذا ردها في جوفه فكأنه عليه السلام يرد ذلك في جوفه مرة بعد أخرى من غير أن يطلع أحدا عليه. وفي الكلام من الاستعارة على الوجهين ما لا يخفى، ورجح الأخير منهما بأن فعيلا بمعنى فاعل مطرد ولا كذلك فعيلا بمعنى مفعول قالُوا أي الإخوة وقيل غيرهم من أتباعه عليه السلام تَاللَّهِ تَفْتَؤُا أي لا تفتأ ولا تزال تَذْكُرُ يُوسُفَ تفجعا عليه فحذف حرف النفي كما في قوله:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي