ذلك والقول به جهل عظيم ولا يقدم عليه ذو قلب سليم، على أن في كلامه بعد ما فيه، وليته اكتفى بجعل الضمائر للرسل وتفسير الظن بالتوهم كما فعل غيره فإنه ما لا بأس به، وكذا لا بأس في حمل كلام ابن عباس على أنه أراد بالظن فيه ما هو على طريق الوسوسة ومثالها من حديث النفس فإن ذلك غير الوسوسة المنزه عنها الأنبياء عليهم السلام أو على أنه أراد بذلك المبالغة في التراخي وطول المدة على طريق الاستعارة التمثيلية بأن شبه المبالغة في التراخي بظن الكذب باعتبار استلزام كل منهما لعدم ترتب المطلوب فاستعمل ما لأحدهما في الآخر، وقيل: إن الضمائر الثلاثة للمرسل إليهم لأن ذكر الرسل متقاض ذاك، ونظير ذلك قوله:
أمنك البرق أرقبه فهاجا ... وبت أخاله دهما خلاجا
فإن ضمير إخاله للرعد ولم يصرح به بل اكتفى بوميض البرق عنه، وإن شئت قلت: إن ذكرهم قد جرى في قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فيكون الضمير للذين من قبلهم ممن كذب الرسل عليهم السلام، والمعنى ظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما ادعوه من النبوة وفيما وعدوا به من لم يؤمن من العقاب وروي ذلك عن ابن عباس أيضا، فقد أخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور والنسائي وابن جرير وغيرهم من طرق عنه رضي الله تعالى عنه أنه كان يقرأ «كذبوا» مخففة ويقول: حتى إذا يئس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم فيما جاؤوا به جاء الرسل نصرنا، وروي ذلك أيضا عن سعيد بن جبير أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ربيعة بن كلثوم قال: حدثني أبي أن مسلم بن يسار سأل سعيد بن جبير فقال: يا أبا عبد الله آية قد بلغت مني كل مبلغ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا فإن الموت أن تظن الرسل أنهم قد كذبوا مثقلة أو تظن أنهم قد كذبوا مخففة فقال سعيد: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم وظن قومهم أن الرسل كذبتهم جاءهم نصرنا فقام مسلم إليه فاعتنقه وقال: فرج الله تعالى عنك كما فرجت عني، وروي أنه قال ذلك بمحضر من الضحاك فقال له: لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلا، وقيل: ضمير ظَنُّوا للمرسل إليهم وضمير أَنَّهُمْ وكُذِبُوا للرسل عليهم السلام أي وظنوا أن الرسل عليهم السلام أخلفوا فيما وعد لهم من النصر وخلط الأمر عليهم. وقرأ غير واحد من السبعة والحسن وقتادة ومحمد بن كعب وأبو رجاء وابن أبي مليكة والأعرج وعائشة في المشهور كُذِبُوا بالتشديد والبناء للمفعول، والضمائر على هذا للرسل عليهم السلام أي ظن الرسل أن أممهم كذبوهم فيما جاؤوا به لطول البلاء عليهم فجاءهم نصر الله تعالى عند ذلك وهو تفسير عائشة رضي الله تعالى عنها الذي رواه البخاري عليه الرحمة، والظن بمعناه أو بمعنى اليقين أو التوهم، وعن ابن عباس ومجاهد والضحاك أنهم قرؤوا «كذبوا» مخففا مبنيا للفاعل فضمير ظَنُّوا للأمم وضمير أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا للرسل أي ظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوهم به من النصر أو العقاب، وجوز أن يكون ضمير ظَنُّوا للرسل وضمير أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا للمرسل إليهم أي ظن الرسل عليهم السلام أن الأمم كذبتهم فيما وعدوهم به من أنهم يؤمنون، والظن الظاهر كما قيل: إنه بمعنى اليقين، وقرئ كما قال أبو البقاء: كُذِبُوا بالتشديد والبناء للفاعل، وأول ذلك بأن الرسل عليهم السلام ظنوا أن الأمم قد كذبوهم في وعدهم هذا، والمشهور استشكال الآية من جهة أنها متضمنة ظاهرا على القراءة الأولى، نسبة ما لا يليق من الظن إلى الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام، واستشكل بعضهم نسبة الاستيئاس إليهم عليهم السلام أيضا بناء على أن الظاهر أنهم استيأسوا مما وعدوا به وأخبروا بكونه فإن ذلك أيضا مما لا يليق نسبته إليهم. وأجيب بأنه لا يراد ذلك وإنما يراد أنهم استيأسوا من إيمان قومهم.
واعترض بأنه يبعده عطف وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا الظاهر في أنهم ظنوا كونهم مكذوبين فيما وعدوا به عليه.