للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أن عبارة التفصيل لا تتحمل هذا التأويل، ورد بأنه متى أمكن حمل كلمة كُلِّ على الاستغراق الحقيقي لا يحمل على غيره، والتخصيص مما لا بأس به على أنه نفسه قد ارتكب ذلك في تفسير قوله تعالى: وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: ١٥٤، الأعراف: ١٤٥] وكون عبارة التفصيل لا تتحمل ذلك التأويل في حيز المنع. ومن الناس من حمل «كل» على الاستغراق من غير تخصيص ذاهبا إلى أن في القرآن تبيين كل شيء من أمور الدين والدنيا وغير ذلك مما شاء الله تعالى ولكن مراتب التبيين متفاوتة حسب تفاوت ذوي العلم وليس ذلك بالبعيد عند من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وقيل: المراد تفصيل كل شيء واقع ليوسف وأبيه وإخوته عليهم السلام مما يهتم به وهو مبني على أن الضمير في كانَ لقصصهم وَهُدىً من الضلالة وَرَحْمَةً ينال بها خير الدارين لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدقون تصديقا معتدا به، وخصوا بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك ونصب تَصْدِيقَ على أنه خبر كان محذوفا أي ولكن كان تصديق، والاخبار بالمصدر لا يخفى أمره.

وقرأ حمران بن أعين، وعيسى الكوفة فيما ذكر صاحب اللوامح وعيسى الثقفي فيما ذكر ابن عطية «تصديق» بالرفع وكذا برفع ما عطف عليه على تقدير ولكن هو تصديق إلخ، وقد سمع من العرب في مثل ذلك الرفع والنصب، ومنه قول ذي الرمة:

وما كان مالي من تراث ورثته ... ولا دية كانت ولا كسب مأثم

ولكن عطاء الله من كل رحلة ... إلى كل محجوب السرداق خضرم

فإنه روي بنصب- عطاء- ورفعه، هذا والله تعالى الهادي إلى سوء السبيل.

ومن باب الإشارة في هذه السورة: قال سبحانه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ وهو اقتصاص ما جرى ليوسف عليه السلام وأبيه وإخوته عليهم السلام، وإنما كان ذلك أحسن القصص لتضمنه ذكر العاشق والمعشوق وذلك مما ترتاح له النفوس أو لما فيه من بيان حقائق محبة المحبين وصفاء سر العارفين والتنبيه على حسن عواقب الصادقين والحث على سلوك سبيل المتوكلين والاقتداء بزهد الزاهدين والدلالة على الانقطاع إلى الله تعالى والاعتماد عليه عند نزول الشدائد، والكشف عن أحوال الخائنين وقبح طرائق الكاذبين، وابتلاء الخواص بأنواع المحن وتبديلها بأنواع الألطاف والمنن مع ذكر ما يدل على سياسة الملوك وحالهم مع رعيتهم إلى غير ذلك، وقيل: لخلو ذلك من الأوامر والنواهي التي يشغل سماعها القلب إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ هذه أول مبادئ الكشوف فقد ذكروا أن أحوال المكاشفين أوائلها المنامات فإذا قوي الحال تصير الرؤيا كشفا، قيل: إنه عليه السلام قد سلك به نحوا مما سلك برسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنه بدأ بالرؤيا الصادقة كما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بها فكان لا يرى رؤيا إلا كانت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء على ما يشير إليه قوله: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ كما حبب ذلك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد، وفيه أن حديث السجن بعد إيتاء النبوة فتدبر.

وذكر بعض الكبار أن يوسف عليه السلام كان آدم الثاني لما كان عليه من كسوة الربوبية ما كان على آدم عليه السلام وهو مجلي الحق للخلق لو يعلمون فلما رأت الملائكة ما رأت من آدم سجدوا له وهاهنا سجد ليوسف من سجد وهم الشمس والقمر والكواكب المعدودة المشار بهم إلى أبويه وإخوته الذين هم على القول بنبوتهم خير من الملائكة عليهم السلام، ولا بدع إذ سجدوا لمن يتلألأ من وجهه الأنوار القدسية والأشعة السبوحية:

لو يسمعون كما سمعت حديثها ... خروا لعزة ركعا وسجودا

<<  <  ج: ص:  >  >>