للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويأبى التأويل الأول ما

في صحيح مسلم أيضا من حديث الإسراء وحدث نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت: يا جبريل ما هذه الأنهار؟ فقال: أما النهر إن الباطنان فنهران في الجنة (١) وأما الظاهران فالفرات والنيل،

وضمير أصلها لسدرة المنتهى كما جاء مبينا في صحيح البخاري وغيره.

والقاضي عياض قال هنا: إن هذا الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهي في الأرض لخروج النيل والفرات من أصلها. وتعقبة النووي بأن ذلك ليس بلازم بل معناه أن الأنهار تخرج من أصلها ثم تسير حيث أراد الله تعالى حتى تخرج من الأرض وتسير فيها، وهذا لا يمنعه عقل ولا شرع وهو ظاهر الحديث فوجب المصير إليه، قيل: ولعل الله تعالى يوصل مياه هاتيك الأنهار بقدرته الباهرة إلى محالها التي يشاهد خروجها منها من حيث لا يراها أحد وما ذلك على الله بعزيز، والظاهر أن المراد أصل مياهها الخارجة من محالها لا هي وما ينضم إليها من السيول وغيرها، وكأني أرى بعض الناس لا يلتزمون ذلك في جميع ما يجري في هاتيك الأنهار، وبعضهم أيضا يجعل الأخبار في هذا الشأن إشارات إلى أمور أنفسية فقط وليس مما ترتضيه الأنفس المرضية. نعم أنا لا أمنع التأويل مع بقاء الأمر آفاقيا وليس عدم اعتقاد الظاهر مما يخل بالدين كما لا يخفى على من لا تعصب عنده.

وللاخباريين في هذه الأنهار كلام طويل تمجه أسماع ذوي الألباب ولا يجري في أنهار قلوبهم ولا أراه يصلح إلا للإلقاء في البحر.

وجاء في بعض الأخبار مرفوعا «نهران مؤمنان ونهران كافران أما المؤمنان فالنيل والفرات وأما الكافران فدجلة وجيحون»

وحمل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم شبه النهرين الأولين لنفعهما بسهولة بالمؤمن والنهرين الأخيرين بالكافر لعدم نفعهما كذلك أنهما إنما يخرج في الأكثر ماؤهما بآلة ومشقة وإلا فوصف ذلك بالإيمان والكفر على الحقيقة غير ظاهر، ثم إن أفضل الأنهار كما قال غير واحد النيل وباقيها على السواء. وزاد بعضهم في عداد ما هو من الجنة دجلة وروي في ذلك خبرا عن مقاتل عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وليس مما يعول عليه، والله تعالى أعلم وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ متعلق- بجعل- في قوله تعالى: جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي اثنينية حقيقية وهما الفردان اللذان كل منهما زوج الآخر وأكد به الزوجين لئلا يفهم أن المراد بذلك الشفعان إذ يطلق الزوج على المجموع لكن اثنينية ذلك اعتبارية أي جعل من كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا ضربين وصنفين إما في اللون كالأبيض والأسود أو في الطعم كالحلو والحامض أو في القدر كالصغير والكبير أو في الكيفية كالحار والبارد وما أشبه ذلك.

وقيل: المعنى خلق في الأرض من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين حين مدها ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوعت، وتعقب أنه دعوى بلا دليل مع أن الظاهر خلافه فإن النوع الناطق المحتاج إلى زوجين خلق ذكره أولا فكيف في الثمرات وتكون واحد من كل أولا كاف في التكون والوجه ما ذكر أولا، وجوز أن يتعلق الجار- بجعل- الأول ويكون الثاني استئنافا لبيان كيفية الجعل.

وزعم بعضهم أن المراد بالزوجين على تقدير تعلق الجار بجعل السابق الشمس والقمر، وقيل: الليل. والنهار وكلا القولين ليس بشيء يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يلبسه مكانه فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا، ففيه اسناد ما لمكان الشيء إليه، وفي جعل الجو مكانا للنهار تجوز لأن الزمان لا مكان له والمكان إنما هو للضوء الذي هو لازمه،


(١) هما السلسبيل والكوثر اهـ منه.

<<  <  ج: ص:  >  >>