الصافي الخالص من الغثاء والجوهر المعدني الخالص من الخبث فَيَمْكُثُ يبقى فِي الْأَرْضِ أما الماء فيبقى بعضه في مناقعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون ونحوها وأما الجوهر المعدني فيصاغ من بعضه أنواع الحلي ويتخذ من بعضه أصناف الآلات والأدوات فينتفع بكل من ذلك أنواع الانتفاعات مدة طويلة فالمراد بالمكث في الأرض ما هو أعم من المكث في نفسها ومن البقاء في أيدي المتقلبين فيها، وتغيير ترتيب اللف الواقع في الفذلكة الموافق للترتيب الواقع في التمثيل قيل لمراعاة الملاءمة بين حالتي الذهاب والبقاء وبين ذكرهما فإن المعتبر إنما هو بقاء الباقي بعد ذهاب الذاهب لا قبله، وقيل: النكتة في تقديم الزبد على ما ينفع أن الزبد هو الظاهر المنظور أولا وغيره باق متأخر في الوجود لاستمراره، والآية من الجمع والتقسيم كما لا يخفى.
وحاصل الكلام في الآيتين أنه تعالى مثل الحق وهو القرآن العظيم عند الكثير في فيضانه من جناب القدس على قلوب خالية عنه متفاوتة الاستعداد وفي جريانه عليها ملاحظة وحفظا وعلى الألسنة مذاكرة وتلاوة مع كونه ممدا لحياتها الروحانية وما يتلوها من الملكات السنية والأعمال المرضية بالماء النازل من السماء السائل في أودية يابسة لم تجر عادتها بذلك سيلانا مقدرا بمقدار اقتضته الحكمة في إحياء الأرض وما عليها الباقي فيها حسبما يدور عليه منافع الناس وفي كونه حلية تتحلى بها النفوس وتصل إلى البهجة الأبدية ومتاعا يتمتع به في المعاش والمعاد بالذهب والفضة وسائر الفلزات التي يتخذ منها أنواع الآلات والأدوات وتبقى منتفعا بها مدة طويلة، ومثل الباطل الذي ابتلي به الكفرة لقصور نظرهم بما يظهر فيهما من غير مداخلة له فيهما وإخلال بصفائهما من الزبد الرابي فوقهما المضمحل سريعا.
وصح عن أبي موسى الأشعري أنه قال:«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم مثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب اكتسبت الماء نفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به»
وقال ابن عطية: صدر الآية تنبيه على قدرة الله تعالى وإقامة الحجة على الكفرة فلما فرع من ذلك جعله مثالا للحق والباطل والإيمان والكفر واليقين في الشرع والشك فيه، وكأنه أراد بعطف الإيمان وما بعده التفسير للمراد بالحق والباطل. وعن ابن عباس جعل الزبد إشارة إلى الشك والخالص منه إشارة إلى اليقين كَذلِكَ أي مثل ذلك الضرب العجيب يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ في كل باب إظهار الكمال اللطف والعناية في الإرشاد، وفيه تفخيم لشأن هذا التمثيل وتأكيد لقوله سبحانه:«يضرب الله الحق والباطل» إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الأول أو بجعل ذلك إشارة إليهما جميعا. وبعد ما بين تعالى شأنه شأن كل من الحق والباطل حالا ومآلا أكمل بيان شرع في بيان حال أهل كل منهما مآلا تكميلا للدعوة ترغيبا وترهيبا فقال سبحانه: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ إذ دعاهم إلى الحق بفنون الدعوة التي من جملتها ضرب الأمثال فإن له لما فيه من تصوير المعقول بصورة المحسوس تأثيرا بليغا في تسخير النفوس، والجار والمجرور خبر مقدم، وقوله سبحانه: الْحُسْنى أي المثوبة الحسنى وهي الجنة كما قال قتادة. وغيره، وعن مجاهد الحياة الحسنى أي الطيبة التي لا يشوبها كدر أصلا. وعن ابن عباس أن المراد جزاء الكلمة الحسنى وهي لا إله إلا الله وفيه من البعد ما لا يخفى مبتدأ مؤخر وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ سبحانه وعاندوا الحق الجلي لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ من أصناف الأموال جَمِيعاً بحيث لم يشذ منه شاذ في أقطارها أو مجموعا غير متفرق بحسب الأزمان وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أي بالمذكور مما في الأرض ومثله معه