بحسب بادئ الرأي والنظرة الأولى أما إذا نظر بعين الإنصاف بعد تسليم أن ذاك أولى وأقوى علم أن ما قاله أبو حيان وارد فإن قوله تعالى: كَذلِكَ يقتضي أن هذا شأنه وعادته عز شأنه في ضرب الأمثال فيقتضي أن ما جرت به العادة القرآنية مقيد بهؤلاء وليس كذلك، وما ذكره المتعقب ولو سلم فهو خلاف الظاهر. وأما قوله: إن المستجيبين معلوم مما ذكره ففرق بين العلم ضمنا والعلم صراحة، وأما أن الصفة مؤكدة أولا مفهوم لها فخلاف الأصل أيضا، وكون الجملة غير مرتبطة بما قبلها ظاهر، والسؤال عن حال أحد الفريقين مع ذكرهما ملبس، وعود الضمير على ما قبله مطلقا هو المتبادر وما ذكر لا يدفع الإيهام. وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل التفسير الأخير وحمل الأمثال فيه على الأمثال السابقة: وأنت خبير بأن عنوان الاستجابة وعدمها لا مناسبة بينه وبين ما يدور عليه أمر التمثيل وأن الاستعمال المستفيض دخول اللام على من يقصد تذكيره بالمثل. نعم قد يستعمل في هذا المعنى أيضا كما في قوله تعالى:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ [التحريم: ١١] ونظائره، على أن بعض الأمثال المضروبة لا سيما المثل الأخير الموصول بالكلام ليس مثل الفريقين بل مثل للحق والباطل ولا مساغ لجعل الفريقين مضروبا لهم أيضا بأن يجعل في حكم أن يقال: كذلك يضرب الله الأمثال للناس إذ لا وجه حينئذ لتنويعهم إلى المستجيبين وغير المستجيبين ويؤيد هذا ما في الكشف حيث قال: إن جعل لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا من تتمة الأمثال لا من صلة يضرب متكلف لأنهما مثلا الحق والباطل بالأصالة ومن صلة يَضْرِبُ أبعد لأن الأمثال إنما ضربت لمن يعقل.
ثم إن كون المراد بالأمثال الأمثال السابقة مبني على أن ما تقدم كان أمثالا والمشهور أنه مثلان، نعم أخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: هذه ثلاثة أمثال ضربها الله تعالى في مثل واحد، وبعد هذا كله لا شك في سلامة التفسير الأول من القيل والقال وإنه الذي يستدعيه النظم الجليل لأن تمام حسن الفاصلة أن تكون كاسمها ولهذا انحط قول امرئ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
عن قول المتنبي:
إذا كان مدحا فالنسيب المقدم ... أكل فصيح قال شعرا متيم
وهو الذي فهمه السلف من الآية، ومن هنا كان أكثر الشيوخ يقفون على الأمثال ويتبدؤون بقوله تعالى: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا وقال صاحب المرشد: إنه وقف تام والوقف على الْحُسْنى حسن وكذا على لَافْتَدَوْا بِهِ والعجب من الزمخشري كيف اختار خلاف ذلك مع وضوحه والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة: المر أي الذات الأحدية واسمه العليم واسمه الأعظم ومظهره الذي هو الرحمة تِلْكَ آياتُ علامات الْكِتابِ الجامع الذي هو الوجود المطلق اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها أي بغير عمد مرئية بل بعمد غير مرئية، وجعل الشيخ الأكبر قدس سره عمادها الإنسان الكامل، وقيل: النفس المجردة التي تحركها بواسطة النفس المنطبعة وهي قوة جسمانية سارية في جميع أجزاء الفلك لا يختص بها جزء دون جزء لبساطته وهي بمنزلة الخيال فينا وفيه ما فيه، وقيل: رفع سموات الأرواح بلا مادة تعمدها بل مجردة قائمة بنفسها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ بالتأثير والتقويم، وقيل: عرش القلب بالتجلي وَسَخَّرَ الشَّمْسَ شمس الروح بإدراك المعارف الكلية واستشراف الأنوار العالية «والقمر» قمر القلب بإدراك ما في العالمين والاستمداد من فوق ومن تحت ثم قبول تجليات الصفات كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى وهو كماله بحسب الفطرة يُدَبِّرُ الْأَمْرَ في البداية بتهيئة الاستعداد وترتيب