للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والتفصيل، والظاهر أن المراد من الأكل ما يؤكل فيها، ومعنى دوامه أنه لا ينقطع أبدا، وقال إبراهيم التيمي: إن لذته دائمة لا تزاد بجوع ولا تمل بشبع وهو خلاف الظاهر.

وفسر بعضهم الأكل بالثمرة، فقيل: وجهه أنه ليس في جنة الدنيا غيره وإن كان في الموعودة غير ذلك من الأطعمة، واستظهر أن ذلك لإضافته إلى ضمير الجنة والأطعمة لا يقال فيها أكل الجنة وفيه تردد، والظل في الأصل ضد الضح وهو عند الراغب أعم من الفيء فإنه يقال: ظل الليل ولا يقال فيؤه، ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل ولا يقال الفيء إلا لما زالت عنه، وفي القاموس هو الضح والفيء أو هو بالغداة والفيء بالعشي جمعه ظلال وظلول واظلال، ويعبر به عن العزة والمنعة وعن الرفاهة، والمشهور تفسيره هنا بالمعنى الأول، وهو مبتدأ محذوف الخبر أي وأكلها كذلك أي دائم، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، ومعنى دوامه أنه لا ينسخ كما ينسخ في الدنيا بالشمس إذ لا شمس هناك على الشائع عند أهل الأثر أو لأنها لا تأثير لها على ما قيل، ويجوز عندي أن يراد بالظل العزة أو الرفاهة وأن يراد المعنى الأول ويجعل الكلام كناية عن دوام الراحة، وأكفر خارجة بن معصب كما روي عنه ذلك ابن المنذر. وأبو الشيخ القائل بعدم دوام الجنة كما يحكى عن جهم. وأتباعه لهذه الآية. وبها استدل القاضي على أنها لم تخلق بعد لأنها لو كانت مخلوقة لوجب أن يفنى وينقطع أكلها لقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: ٨٨] لكن أكلها لا ينقطع ولا يفنى للآية المذكورة فوجب أن لا تكون مخلوقة بعد، ثم قال: ولا ننكر أن يكون الآن جنان كثيرة في السماء يتمتع بها من شاء الله تعالى من الأنبياء والشهداء وغيرهم إلا أنا نقول: إن جنة الخلد إنما تخلق بعد الإعادة. وأجاب الإمام عن ذلك بأن دليله مركب من شيئين قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وقوله سبحانه: أُكُلُها دائِمٌ فإذا أدخلنا التخصيص في أحد هذين العمومين سقط الدليل فنحن نخصص أحدهما بالدلائل الدالة على أن الجنة مخلوقة كقوله تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحديد: ٢١] اه.

ويرد على الاستدلال أنه مشترك الإلزام إذ الشيء في قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ الموجود مطلقا كما في قوله تعالى: «خالق كل شيء وهو بكل شيء عليم» (١)

والمعنى أن كل ما يوجد في وقت من الأوقات يصير هالكا بعد وجوده فيصح أن يقال: لو وجدت الجنة في وقت لوجب هلاك أكلها تحقيقا للعموم لكن هلاكه باطل لقوله تعالى: أُكُلُها دائِمٌ فوجودها في وقت من الأوقات باطل. وأجيب بأنه لعل المراد من الشيء الموجود في الدنيا فإنها دار الفناء دون الموجود في الآخرة فإنها دار البقاء وهذا كاف في عدم اشتراك الإلزام وفيه أنه إن أريد أن معنى الشيء هو الموجود في الدنيا فهو ظاهر البطلان، وإن أريد أن المراد ذلك بقرينه كونه محكوما عليه بالهلاك وهو إنما يكون في الدنيا لأنها دار الفناء فنقول: إنه تخصيص بالقرينة اللفظية فنحن نخصصه بغير الجنة لقوله تعالى:

أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ وأُكُلُها دائِمٌ فلا يتم الاستدلال.

وأجاب غير الإمام بأن المراد هو الدوام العرفي وهو عدم طريان العدم زمانا يقيد به وهذا لا ينافي طريان العدم عليه وانقطاعه لحظة على أن الهلاك لا يستلزم الفناء بل يكفي فيه الخروج عن الانتفاع المقصود، ولو سلم يجوز أن يكون المراد أن كل ممكن فهو هالك في حد ذاته بمعنى أن الوجود الإمكاني بالنظر إلى الوجود الواجبي بمنزلة العدم، وقيل: في الجواب أيضا: إن المراد بالدوام المعنى الحقيقي أعني عدم طريان العدم مطلقا، والمراد بدوام الأكل دوام


(١) كذا في الأصل، وفي سورة الزمر، الآية: ٦٢ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>