إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور فيما تقدم أعني قوله تعالى: إِلَى النُّورِ وقال غير واحد: إن صِراطِ بدل من النُّورِ وأعيد عامله وكرر لفظا ليدل على البدلية كما في قوله تعالى: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الأعراف: ٧٥] ولا يضر الفصل بين البدل والمبدل منه بما قبله لأنه غير أجنبي إذ هو من معمولات العامل في المبدل منه على كل حال. واستشكل هذا مع الاستعارة السابقة بأن التعقيب بالبدل لا يتقاعد عن التعقيب بالبيان في مثل قوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة: ١٨٧] وأجيب بأن الصراط استعارة أخرى للهدى جعل نورا أولا لظهوره في نفسه واستضاءة الضلال في مهواة الهوى به، ثم جعل ثانيا جادة مسلوكة مأمونة لا كبنيات الطرق دلالة على تمام الإرشاد.
وفي الإرشاد أن إخلال البيان والبدل بالاستعارة إنما هو في الحقيقة لا في المجاز وهو ظاهر، وجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف على أنه جواب سائل يسأل إلى أي نور؟ فقيل: إِلى صِراطِ إلى آخره، وإضافة الصراط إليه تعالى لأنه مقصده أو المبين له، وتخصيص الوصفين الجليلين بالذكر للترغيب في سلوكه إذ في ذلك إشارة إلى أنه يعز سالكه ويحمد سابله، وقال أبو حيان: النكتة في ذلك أنه لما ذكر قبل إنزاله تعالى لهذا الكتاب وإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ناسب ذكر هاتين الصفتين صفة العزة المتضمنة للقدرة والغلبة لإنزاله مثل هذا الكتاب المعجز الذي لا يقدر عليه سواه، وصفة الحمد لإنعامه بأعظم النعم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ووجه التقديم والتأخير على هذا ظاهر.
وقال الإمام: إنما قدم ذكر الْعَزِيزِ على ذكر الْحَمِيدِ لأن الصحيح أن أول العلم بالله تعالى العلم بكونه تعالى قادرا ثم بعد ذلك العلم بكونه عالما ثم بعد ذلك العلم بكونه غنيا عن الحاجات، والعزيز هو القادر والحميد هو العالم الغني فلما كان العلم بكونه تعالى قادرا متقدما على العلم بكونه عالما بالكل غنيا عنه لا جرم قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد اه ولم نر تفسير الْحَمِيدِ بما ذكر لغيره، وفي المواقف وشرح أسماء الله تعالى الحسنى لحجة الإسلام الغزالي وغيرهما أن الْحَمِيدِ هو المحمود المثني عليه وهو سبحانه محمود بحمده لنفسه أزلا وبحمد عباده له تعالى أبدا، وبين هذا وما ذكره الإمام بعد بعيد، وأما ما ذكره في الْعَزِيزِ فهو قول لبعضهم وقيل: هو الذي لا مثل له.
وربما يقال على هذا: إن التقديم للاعتناء بالصفات السلبية كما يؤذن به قولهم: التخلية أولى من التحلية وكذا قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: ١١] ولعل كلامه قدس سره بعد لا يخلو عن نظر، وقوله تعالى: اللَّهِ بالرفع على ما قرأ نافع. وابن عامر خبر مبتدأ محذوف أي هو الله والموصول الآتي صفته، وبالجر على قراءة باقي السبعة والأصمعي عن نافع بدل مما قبله في قول ابن عطية: والحوفي وأبي البقاء، وعطف بيان في قول الزمخشري قال: لأنه أجري مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود بحق كما غلب النجم على الثريا، ولعل جعله جاريا مجرى ذلك ليس لاشتراطه في عطف البيان بل لأن عطف البيان شرطه إفادة زيادة إيضاح لمتبوعه وهي هنا بكونه كالعلم باختصاصه بالمعبود بحق وقد خرج عن الوصفية بذلك فليس صفة كالعزيز الحميد.
ثم إنه لا يخفى عليك أنه عند الأئمة المحققين علم لا أنه كالعلم، وعن ابن عصفور أنه لا تقدم صفة على موصوف إلا حيث سمع وذلك قليل، وللعرب فيما وجد من ذلك وجهان: أحدهما أن تقدم الصفة وتبقيها على ما كانت عليه، وفي إعراب مثل هذا وجهان: أحدهما إعرابه نعتا مقدما. والثاني أن يجعل ما بعد الصفة بدلا، والوجه الثاني أن تضيف الصفة إلى الموصوف اه، وعلى هذا يجوز أن يكون الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ صفتين متقدمتين ويعرب