وقرأ طلحة «ولا تحسب» بغير نون التوكيد إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ يمهلهم متمتعين بالحظوظ الدنيوية ولا يعجل عقوبتهم، وهو استئناف وقع تعليلا للنهي السابق أي لا تحسبن الله تعالى غافلا عن عقوبة أعمالهم لما ترى من التأخير إنما ذلك لأجل هذه الحكمة، وإيقاع التأخير عليهم مع أن المؤخر إنما هو عذابهم قيل: لتهويل الخطب وتفظيع الحال ببيان أنهم متوجهون إلى العذاب مرصدون لأمر ما لا أنهم باقون باختيارهم، وللدلالة على أن حقهم من العذاب هو الاستئصال بالمرة وأن لا يبقى منهم في الوجود عين ولا أثر، وللإيذان بأن المؤخر ليس من جملة العذاب وعنوانه، ولو قيل: إنما يؤخر عذابهم لما فهم ذلك.
وقرأ السلمي والحسن والأعرج والمفضل عن عاصم، ويونس بن حبيب عن أبي عمرو. وغيرهم «نؤخرهم» بنون العظمة وفيه التفات لِيَوْمٍ هائل تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ أي ترتفع أبصار أهل الموقف فيدخل في زمرتهم الظالمون المعهودون دخولا أوليا أي تبقى مفتوحة لا تطرف- كما قال الراغب- من هول ما يرونه، وفي البحر شخص البصر أحد النظر ولم يستقر مكانه، والظاهر أن اعتبار عدم الاستقرار لجعل الصيغة من شخص الرجل من بلده إذا خرج منها فإنها يلزمه عدم القرار فيها أو من شخص بفلان إذا ورد عليه ما يقلقه كما في الأساس.
وحمل بعضهم الألف واللام على العهد أي أبصارهم لأنه المناسب لما بعده والظاهر مما روي عن قتادة فقد أخرج عبد بن حميد. وغيره عنه أنه قال في الآية: شخصت فيه والله أبصارهم فلا ترتد إليهم، واختار بعضهم حمل «أل» على العموم قال: لأنه أبلغ في التهويل، ولا يلزم عليه التكرير مع بعض الصفات الآتية، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما قيل فيه مُهْطِعِينَ مسرعين إلى الداعي قاله ابن جبير. وقتادة، وقيده في البحر يقول: بذلة واستكانة كإسراع الأسير والخائف، وقال الأخفش: مقبلين للإصغاء وأنشد:
بدجلة دارهم ولقد أراهم ... بدجلة مهطعين إلى السماع
وقال مجاهد: مديمين النظر لا يطرفون، وقال أحمد بن يحيى: المهطع الذي ينظر في ذلّ وخشوع لا يقلع بصره، وروى ابن الأنباري أن الإهطاع التجميح وهو قبض الرجل ما بين عينيه، وقيل: إن الإهطاع مد العنق والهطع طول العنق، وذكر بعضهم أن أهطع وهطع بمعنى وإن كل المعاني تدور على الإقبال مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ رافعيها مع الإقبال بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شيء، قاله ابن عرفة. والقتيبي.
وأنشد الزجاج قول الشماخ يصف إبلا ترعى أعلى الشجر:
يباكرن العضاه بمقنعات ... نواجذهن كالحد الوقيع
وأنشده الجوهري لكون الإقناع انعطاف الإنسان إلى داخل الفم يقال: فم مقنع أي معطوفة أسنانه إلى داخله وهو الظاهر، وفسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المقنع بالرافع رأسه أيضا وأنشد له قول زهير:
هجان وحمر مقنعات رؤوسها ... وأصفر مشمول من الزهر فاقع
ويقال: أقنع رأسه نكسه وطأطأه فهو من الأضداد، قال المبرد. وكونه بمعنى رفع أعرف في اللغة اه، وقيل: ومن المعنى الأول قنع الرجل إذا رضي بما هو فيه كأنه رفع رأسه عن السؤال: وقد يقال: إنه من الثاني كأنه طأطأ رأسه ولم يرفعه للسؤال ولم يستشرف إلى غير ما عنده، ونصب الوصفين على أنهما حالان من مضاف محذوف أي أصحاب الأبصار بناء على أنه يقال: شخص زيد ببصره أو الأبصار تدل على أصحابها فجاءت الحال من المدلول عليه ذكر ذلك أبو البقاء، وجوز أن يكون مُهْطِعِينَ منصوبا بفعل مقدر أي تبصرهم مهطعين ومُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ على هذا قيل: حال من المستتر في مُهْطِعِينَ فهي حال متداخلة وإضافته غير حقيقية فلذا وقع حالا وقال بعض الأفاضل: إن