نوح وهود على تقدير عمومها للكل، وهذا الخطاب وما يتلوه باعتبار حال أواخرهم. وَتَبَيَّنَ لَكُمْ أي ظهر لكم على أتم وجه بمعاينة الآثار وتواتر الأخبار كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ من الإهلاك والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد، وفاعل تَبَيَّنَ مضمر يعود على ما دل عليه الكلام أي فعلنا العجب بهم أو حالهم أو خبرهم أو نحو ذلك، وكيف في محل نصب- بفعلنا- وجملة الاستفهام ليست معمولة- لتبين- لأنه لا يعلق، وقيل: الجملة فاعل «تبين» بناء على جواز كونه جملة وهو قول ضعيف للكوفيين.
وذهب أبو حيان إلى ما ذهب إليه الجماعة ثم ذكر أنه لا يجوز أن يكون الفاعل «كيف» لأنه لا يعمل فيها ما قبلها إلا فيما شذ من قولهم: على كيف تبيع الأحمرين وقولهم: انظر إلى كيف تصنع. وقرأ السلمي فيما حكاه عنه أبو عمرو الداني «ونبين» بنون العظمة ورفع الفعل، وحكى ذلك أيضا صاحب اللوامح عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وذلك على إضمار مبتدأ أي ونحن نبين والجملة حالية، وقال المهدوي عن السلمي أنه قرأ بنون العظمة إلا أنه جزم الفعل عطفا على تكونوا أي أو لم نبين لكم وَضَرَبْنا لَكُمُ أي في القرآن العظيم على تقدير اختصاص الخطاب بالمنذرين أو على ألسنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تقدير عمومه لجميع الظالمين.
الْأَمْثالَ أي صفات ما فعلوا وما فعل بهم من الأمور التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة لتعتبروا وتقيسوا أعمالكم على أعمالهم وما لكم على ما لهم وتنتقلوا من حلول العذاب العاجل إلى العذاب الآجل فتردعوا عما كنتم فيه من الكفر والمعاصي، وجوز أن يراد من الأمثال ما هو جمع مثل بمعنى الشبيه أي بينا لكم أنهم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب: وروي هذا عن مجاهد، والجمل الثلاث في موقع الحال من ضمير أَقْسَمْتُمْ أي أقسمتم أن ليس لكم زوال والحال أنكم سكنتم في مساكن المهلكين بظلمهم وتبين لكم فعلنا العجيب بهم ونبهناكم على جلية الحال بضرب الأمثال، وقوله سبحانه: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ حال من الضمير الأول في فَعَلْنا بِهِمْ أو من الثاني أو منهما جميعا، وقدم عليه قوله تعالى: وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ لشدة ارتباطه على ما قيل بما قبله أي فعلنا بهم ما فعلنا والحال أنهم قد مكروا في إبطال الحق وتقرير الباطل مكرهم العظيم الذي استفرغوا في عمله المجهود وجاوزوا فيه كل حد معهود بحيث لا يقدر عليه غيرهم، والمراد بيان تناهيه في استحقاق ما فعل بهم، أو وقد مكروا مكرهم المذكور في ترتيب مبادئ البقاء ومدافعة أسباب الزوال فالمقصود إظهار عجزهم واضمحلال قدرتهم وحقارتها عند قدرة الله سبحانه قاله شيخ الإسلام، وهو ظاهر في أن هذا من تتمة ما يقال لأولئك الذين ظلموا، وهو المروي عن محمد بن كعب القرظي، فقد أخرج عنه ابن جرير أنه قال: بلغني أن أهل النار ينادون رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ إلخ فيرد عليهم بقوله سبحانه: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ إلى قوله تعالى لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ وذكره ابن عطية احتمالا، وقيل غير ذلك مما ستعلمه إن شاء الله تعالى قريبا. وظاهر كلام غير واحد أن استفادة المبالغة في مَكَرُوا مَكْرَهُمْ من الإضافة.
وفي الحواشي الشهابية أن مَكْرَهُمْ منصوب على أنه مفعول مطلق لأنه لازم فدلالته على المبالغة لقوله تعالى الآتي: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ إلخ لا لأن إضافة المصدر تفيد العموم أي أظهروا كل مكر لهم أو لأن إضافته وأصله التنكير لإفادة أنهم معروفون بذلك وللبحث فيه مجال وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي جزاء مكرهم على أن الكلام على حذف مضاف، وجوز أن لا يكون هناك مضاف محذوف، والمعنى مكتوب عنده تعالى مكرهم ومعلوم له سبحانه وذلك كناية عن مجازاته تعالى لهم عليه، وأيا ما كان فإضافة مكر إلى الفاعل وهو الظاهر المتبادر، وقيل: