فيها الأشياء وإن للريح مكانا وللمطر مكانا ولكل مكان حفظة من الملائكة عليهم السلام، ولا يخفى أنه لا يمكن مع تعميم الشيء وَما نُنَزِّلُهُ أي نوجد ما نكون شيئا من تلك الأشياء ملتبسا بشيء من الأشياء إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ أي إلا ملتبسا بمقدار معين تقتضيه الحكمة وتستدعيه المشيئة التابعة لها من بين المقدورات الغير المتناهية فإن تخصيص كل شيء بصفة معينة وقدر معين ووقت محدود دون ما عدا ذلك مع استواء الكل في الأشكال وصحة تعلق القدرة به لا بد له من حكمة تقتضي اختصاص كل من ذلك بما اختص به.
وهذا لبيان سر عدم تكون الأشياء على وجه الكثرة حسبما هو في الخزائن، وهو إما عطف على مقدر أي ننزله وما ننزله إلا بقدر إلى آخره أو حال مما سبق أي عندنا خزائن كل شيء والحال أنا ما ننزله إلا بقدر إلى آخره، فالأول لبيان سعة القدرة، والثاني لبيان بالغ الحكمة قاله. مولانا شيخ الإسلام. وقرأ الأعمش «وما نرسله إلا» إلى آخره، وهي على ما في البحر قراءة تفسير لمخالفتها لسواد المصحف، والأولى في التفسير ما ذكرنا، وإنما عبر عن إيجاد ذلك وإنشائه بالتنزيل لما أنه بطريق التفضل من العالم العلوي إلى العالم السفلي وقيل: لما أن فيه إخراج الشيء مما تميل إليه ذاته من العدم إلى ما لا تميل إليه ذاته من الوجود، وهذا كما في قوله تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ
[الزمر: ٦] وقوله سبحانه: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد: ٢٥] وكأن من حمل الشيء على المطر غره ظاهر التنزيل فارتكب خلاف ظاهره وجدا، وكأنه لما كان ذلك بطريق التدريج عبر عنه بالتنزيل، وجيء بصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار. واستدل بعض القائلين يشيئية المعدوم على ذلك بهذه الآية، وقد بين وجهه والجواب عنه الإمام ونحن مع القائلين بالشيئية وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ عطف على جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وما بينهما اعتراض لتحقيق ما سبق وترشيح ما لحق، واللواقح جمع لاقح بمعنى حامل يقال: ناقة لاقح أي حامل، ووصف الرياح بذلك على التشبيه البليغ، شبهت الريح التي بالسحاب الماطر بالناقة الحامل لأنها حاملة لذلك السحاب أو للماء الذي فيه، وقال الفراء: إنها جمع لاقح على النسب كلابن وتامر أي ذات لقاح وحمل، وذهب إليه الراغب، ويقال لضدها ريح عقيم، وقال أبو عبيدة: لَواقِحَ أي ملاقح جمع ملقحة كالطوائح في قوله:
لبيك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح
أي المطاوح جمع مطيحة، وهو من ألقح الفحل الناقة إذا ألقى ماءه فيها لتحمل، والمراد ملقحات للسحاب أو الشجر فيكون قد استعير اللقح لصب المطر في السحاب أو الشجر، وإسناده إليها على الأول حقيقة وعلى الثاني مجاز إذ الملقى في الشجر السحاب لا الريح والرياح اللواقح هي ريح الجنوب كما
رواه ابن أبي الدنيا عن قتادة مرفوعا، وروى الديلمي بسند ضعيف عن أبي هريرة نحوه، وأخرج ابن جرير وغيره عن عبيد بن عمير قال: يبعث الله تعالى المبشرة فتقم الأرض قما ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب فتجعله كسفا ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه فيجعله ركاما ثم يبعث اللواقح فتلقحه فيمطر.
وقرأ حمزة «وأرسلنا الريح» بالإفراد على تأويل الجنس فتكون في معنى الجمع فلذا صح جعل لَواقِحَ حالا منها وذلك كقولهم: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض، ولا تخالف هذه القراءة ما قالوه
في حديث «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا»
من أن الرياح تستعمل للخير والريح للشر لما قال الشهاب من أن ذلك ليس من الوضع وإنما هو من الاستعمال وهو أمر أغلبي لا كلي فقد استعملت الريح في الخير أيضا نحو قوله تعالى: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يونس: ٢٢] أو هو محمول على الإطلاق بأن لا يكون معه قرينة كالصفة والحال، وأما كون المراد بالخير الدعاء بطول العمر ليرى رياحا كثيرة فلا وجه له.
فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ بعد ما أنشأنا بتلك الرياح سحابا ماطرا ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ جعلناه لكم سقيا تسقون به