تكذيبهم ما فيه، ويؤيد ذلك تأكيدهم الملة الدالة على تكذيبهم أتم تأكيد، وهي في موضع البدل من القول كما قال الإمام أي ألقوا إليهم أنكم لكاذبون وَأَلْقَوْا أي الذين أشركوا، وقيل: هم وشركاؤهم جميعا، والأكثرون على الأول إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ الاستسلام والانقياد لحكمه تعالى العزيز الغالب بعد الإباء والاستكبار في الدنيا فلم يكن لهم إذ ذاك حيلة ولا دفع. وروى يعقوب عن أبي عمرو وأنه قرأ «السّلم» بإسكان اللام، وقرأ مجاهد السلم بضم السين واللام وَضَلَّ عَنْهُمْ ضاع وبطل ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الله سبحانه شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين سمعوا ما سمعوا.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ بنسبة ذلك إلى غيره سبحانه ورؤيته منه لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النعمة بالغفلة عن منعمها فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال ذلك أو فسوف تعلمون بظهور التوحيد أن لا تأثير لغيره تعالى في شيء وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ فيعتقدون فيه من الجهالات ما يعتقدون وهو السوي نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ فيقولون هو أعطاني كذا ولو لم يعطني لكان كذا وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ الإشارة فيه على ما في أسرار القرآن إلى ما تشربه الأرواح مما يحصل في العقول الصافية بين النفس والقلب من زلال بحر المشاهدة وهناك منازل اعتبار المعتبرين، والإشارة في قوله تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً على ما في أيضا إلى ما تتخذه الأرواح والأسرار من ثمرات نخيل القلوب وأعناب العقول من خمر المحبة والأنس الآخذة بها إلى حضيرة القدس:
ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت ... لعادت إليه الروح وانتعش الجسم
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ قيل أي نحل الأرواح أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ أي جبال أنوار الذات بُيُوتاً مقار لتسكنين فيها وَمِنَ الشَّجَرِ أي ومن أشجار أنوار الصفات وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أنوار عروش الأفعال ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي من ثمرات تلك الأشجار الصفاتية ونور بهاء الأنوار الذاتية وأزهار الأنوار الإفعالية فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ وهي صحارى قدسه تعالى وبراري جلاله جل شأنه ذُلُلًا منقادة لما أمرت به يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ وهو شراب معرفته تعالى بقدم جلاله وعز بقائه وتقدس ذاته سبحانه مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ باختلاف الثمرات فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ لكل مريض المحبة وسقيم الإلفة ولديغ الشوق، وقيل: الإشارة بالنحل إلى الذين هم في مبادي السلوك من أرباب الاستعداد، ومن هنا قال الشيخ الأكبر قدس سره في مولانا ابن الفارض قدس سره حين سئل عنه: نحلة تدندن حول الحمى أمرهم الله تعالى أولا أن يتخذوا مقار من العقائد الدينية التي هي كالجبال في الرسوخ، الثبات ومن العبادات الشرعية التي هي كالشجر في التشعب ومن المعاملات المرضية التي هي كالعروش في الارتفاع ثم يسلكوا سبله سبحانه وطرقه الموصلة إليه جل شأنه من تهذيب الباطن والمراقبة والفكر ونحو ذلك متذللين خاضعين غير معجبين، وفي ذلك إشارة إلى أن السلوك إنما يصح بعد تصحيح العقائد ومعرفة الأحكام الشرعية ليكون السالك على بصيرة في أمره وإلا فهو كمن ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء، ومتى سلك على ذلك الوجه حصل له الفوز بالمطلوب وتفجرت ينابيع الحكمة من قلبه وصار ما يقذف به قلبه كالعسل شفاء من علل الشهوات وأمراض النفس لا سيما مرض التثبط والتكاسل عن العبادة وهو المرض البلغمي.
وقال أبو بكر الوراق: النحلة لما اتبعت الأمر وسلكت سبل ربها على ما أمرت به جعل لعابها شفاء للناس كذلك المؤمن إذا اتبع الأمر وحفظ السر وأقبل على ربه عز وجل جعل رؤيته وكلامه ومجالسته شفاء للخلق فمن نظر إليه