للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

للتكثير فقال: ما من شيء من أمر الدين والدنيا إلا يمكن استخراجه من القرآن وقد بين فيه كل شيء بيانا بليغا واعتبر في ذلك مراتب الناس في الفهم فرب شيء يكون بيانا بليغا ولا يكون كذلك لآخرين بل قد يكون بيانا لواحد ولا يكون بيانا لآخر فضلا عن كون البيان بليغا أو غير بليغ وليس هذا إلا لتفاوت قوى البصائر، ونظير ذلك اختلاف مراتب الإحساس لتفاوت قوى الأبصار، وقيل: معنى كونه تبيانا أنه كذلك في نفسه وهو لا يستدعي وجود مبين له فضلا عن تشارك الجميع في تحقق هذا الوصف بالنسبة إليهم بأن يفهموا حال كل شيء منه على أتم وجه، ونظير ذلك الشمس فإنها منيرة في حد ذاتها وإن لم يكن هناك مستنير أو ناظر، ويغني عن هذا الاعتبار اعتبار أن المبالغة بحسب الكمية لا الكيفية، ويؤيد القول بالظاهر أن الشيخ الأكبر قدس سره وغيره قد استخرجوا منه ما لا يحصى من الحوادث الكونية. وقد رأيت جدولا حرفيا منسوبا إلى الشيخ كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل المحشر، وآخر كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل الجنة، وآخر كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل النار وكل ذلك على ما يزعمون مستخرج من الكتاب الكريم، ومثل هذا الجفر الجامع المنسوب إلى أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه فإنهم قالوا: إنه جامع لما شاء الله تعالى من الحوادث الكونية وهو أيضا مستخرج من القرآن العظيم.

وقد نقل الجلال السيوطي عن المرسي أنه قال: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ثم رسول الله خلافا استأثر به سبحانه ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة ومثل ابن عباس وابن مسعود حتى قال الأول: لو ضاع لي عقال بعد لوجدته في كتاب الله تعالى ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه فنوعوا علومه وقامت كل طائفة بفن من فنونه، وقيل: لا يخلو الزمان من عارف بجميع ذلك وهو الوارث المحمدي ويسمى الغوث وقطب الأقطاب والمظهر الأتم ومظهر الاسم الأعظم إلى غير ذلك، ويرد على هؤلاء القائلين حديث التأبير

وقوله صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»

وأجيب بأنه يحتمل أن يكون ذلك منه صلى الله عليه وسلم قبل نزوله ما يعلم منه عليه الصلاة والسلام حال التأبير، ويحتمل أن يكون بعد النزول وقال ذلك صلى الله عليه وسلم قبل الرجوع إليه والنظر فيه ولو رجع ونظر لعلم فوق ما علموا فأعلميتهم بأمور دنياهم إنما جاءت لكون علمهم بذلك لا يحتاج إلى الرجوع والنظر وعلمه عليه الصلاة والسلام يحتاج إلى ذلك وهذا كما

قال صلى الله عليه وسلم «لو استقبلت ما استدبرت لما سقت الهدى»

مع أن سوق الهدى من الأمور الدينية، وقد قالوا: إن القرآن العظيم تبيان لها، وهذا يرد عليهم لولا هذا الجواب فتأمل فالبحث بعد غير خال عن القيل والقال، وقال بعضهم: إن الأمور إما دينية أو دنيوية والدنيوية لا اهتمام للشارع بها إذ لم يبعث لها والدينية إما أصلية أو فرعية والاهتمام بالفرعية دون الاهتمام بالأصلية فإن المطلوب أولا بالذات من بعثة الأنبياء عليهم السلام هو التوحيد وما أشبهه بل المطلوب من خلق العباد هو معرفته تعالى كما يشهد له قوله سبحانه: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] بناء على تفسير كثير العبادة بالمعرفة، وقوله تعالى

في الحديث القدسي المشهور على الألسنة المصحح من طريق الصوفية: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف»

والقرآن العظيم قد تكفل ببيان الأمور الدينية الأصلية على أتم وجه فليكن المراد من كل شيء ذلك، ولا يحتاج هذا إلى توجيه كونه تبيانا إلى ما احتاج إليه حمل كل شيء على أمور الدين مطلقا من قولنا: إنه باعتبار أن فيه نصا على البعض وإحالة للبعض الآخر على السنة إلخ، واختار بعض المتأخرين إن كل شيء على ظاهره إلا أن المراد بالتبيان التبيان على سبيل الإجمال وما من شيء إلا بين في الكتاب حاله إجمالا، ويكفي في ذلك بيان بعض أحواله والمبالغة باعتبار الكمية لا الكيفية على ما علمت سابقا، ولو

<<  <  ج: ص:  >  >>