تقدير الموصولية فعند قصد التعليل يجوز الإبدال، وحاصل معنى الآية على ما نص عليه العسكري لا تسموا ما لم يأتكم حله ولا حرمته عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم حلالا ولا حراما فتكونوا كاذبين على الله تعالى لأن مدار الحل والحرمة ليس إلا حكمه سبحانه، ومن هنا قال أبو نضرة: لم أزل أخاف الفتيا منذ سمعت آية النحل إلى يومي هذا.
وقال ابن العربي: كره مالك وقوم أن يقول المفتي هذا حلال وهذا حرام في المسائل الاجتهادية وإنما يقال ذلك فيما نص الله تعالى عليه، ويقال في مسائل الاجتهاد: إني أكره كذا وكذا ونحو ذلك فهو أبعد من أن يكون فيه ما يتوهم منه الافتراء على الله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في أمر من الأمور لا يُفْلِحُونَ لا يفوزون بمطلوب مَتاعٌ قَلِيلٌ أي منفعتهم التي قصدوها بذلك الافتراء منفعة قليلة منقطعة عن قريب- فمتاع- خبر مبتدأ محذوف وقَلِيلٌ صفته والجملة استئناف بياني كأنه لما نفي عنهم الفوز بمطلوب قيل: كيف ذلك وهم قد تحصل لهم منفعة بالافتراء؟ فقيل: ذاك متاع قليل لا عبرة به ويرجع الأمر بالآخرة إلى أن المراد نفي الفوز بمطلوب يعتد به، وإلى كون مَتاعٌ خبر مبتدأ محذوف ذهب أبو البقاء إلا أنه قال: أي بقاؤهم متاع قليل ونحو ذلك. وقال الحوفي: مَتاعٌ قَلِيلٌ مبتدأ وخبر، وفيه أن النكرة لا يبتدأ بها بدون مسوغ وتأويله بمتاعهم ونحوه بعيد وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ لا يكتنه كنهه وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا خاصة دون غيرهم من الأولين حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل نزول هذه الآية وذلك في قوله تعالى في سورة [الأنعام: ١٤٦] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ الآية، والظاهر أن مِنْ قَبْلُ متعلق- بقصصنا- وجوز تعليقه- بحرمنا- والمضاف إليه المقدر ما مر أيضا.
ويحتمل أن يقدر مِنْ قَبْلُ تحريم ما حرم على أمتك، وهو أولى على ما قيل، وجوز أن يكون الكلام من باب التنازع، وهذا تحقيق لما سلف من حصر المحرمات فيما فصل بإبطال ما يخالف من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك، فإنهم كانوا يقولون: لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح. وإبراهيم. ومن بعدهما حتى انتهى الأمر إلينا وَما ظَلَمْناهُمْ بذلك التحريم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث فعلوا ما عوقبوا عليه بذلك حسبما نعى عليهم قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: ١٦٠] الآية، وفيه تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم وإنه كما يكون للمضرة يكون للعقوبة.
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ هو ما يسيء صاحبه من كفر أو معصية ويدخل فيه الافتراء على الله تعالى، وعن ابن عباس أنه الشرك، والتعميم أولى بِجَهالَةٍ أي بسببها، على معنى أن الجهالة السبب الحامل لهم على العمل كالغيرة الجاهلية الحاملة على القتل وغير ذلك، وفسرت الجهالة بالأمر الذي لا يليق، وقال ابن عطية: هي هنا تعدي الطور وركوب الرأس لا ضد العلم، ومنه ما جاء
في الخبر «اللهم أعوذ بك من أن أجهل أو يجهل علي»
وقول الشاعر:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
نعم كثيرا ما تصحب هذه الجهالة التي هي بمعنى ضد العلم، وفسرها بعضهم بذلك وجعل الباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي ملتبسين بجهالة غير عارفين بالله تعالى وبعقابه أو غير متدبرين في العواقب لغلبة الشهوة عليهم ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد ما عملوا ما عملوا، والتصريح به مع دلالة ثُمَّ عليه للتوكيد والمبالغة وَأَصْلَحُوا أي أصلحوا أعمالهم أو دخلوا في الصلاح، وفسر بعضهم الإصلاح بالاستقامة على التوبة إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي التوبة كما قال غير واحد، ولعل الإصلاح مندرج في التوبة وتكميل لها.