ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا للنفس المستعدة القابلة لفيض القلب الثابتة في طريق اكتساب الفضائل الآمنة من خوف فواتها المطمئنة باعتقادها يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً من العلوم والفضائل والأنوار مِنْ كُلِّ مَكانٍ من جميع جهات الطرق البدنية كالحواس والجوارح والآلات ومن جهة القلب فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ ظهرت بصفاتها بطرا وإعجابا بزينتها ونظرا إلى ذاتها ببهجتها وبهائها فاحتجبت بصفاتها الظلمانية عن تلك الأنوار ومالت إلى الأمور السفلية وانقطع إمداد القلب عنها وانقلبت المعاني الواردة عليها من طرق الحس هيئات غاسقة من صور المحسوسات التي انجذبت إليها فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ بانقطاع مدد المعاني والفضائل والأنوار من القلب والخوف من زوال مقتنياتها من الشهوات والمألوفات بِما كانُوا يَصْنَعُونَ من كفران أنعم الله تعالى وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ أي من جنسهم وهي القوة الفكرية فَكَذَّبُوهُ بما ألقى إليهم من المعاني المعقولة والآراء الصادقة فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ أي عذاب الحرمان والاحتجاب وَهُمْ ظالِمُونَ في حالة ظلمهم وترفعهم عن طريق الفضيلة ونقصهم لحقوق صاحبهم إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً لاجتماع ما تفرق في غيره من الصفات الكاملة فيه وكذا كل نبي ولذا جاء في الخبر على ما قيل لو وزنت بأمتي لرجحت بهم قانِتاً لِلَّهِ مطيعا له سبحانه على أكمل وجه حَنِيفاً مائلا عن كل ما سواه تعالى وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بنسبة شيء إلى غيره سبحانه شاكِراً لأنعمه مستعملا لها على ما ينبغي اجْتَباهُ اختاره بلا واسطة عمل لكونه من الذين سبقت لهم الحسنى فتقدم كشوفهم على سلوكهم وَهَداهُ بعد الكشف إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو مقام الإرشاد والدعوة ينعون به مقام الفرق بعد الجمع وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وهي الذكر الجميل والملك العظيم والنبوة وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ قيل أي في عالم الأرواح لَمِنَ الصَّالِحِينَ المتمكنين في مقام الاستقامة وقيل أي يوم القيامة لمن الصالحين للجلوس على بساط القرب والمشاهدة بلا حجاب وهذا لدفع توهم أن ما أوتيه في الدنيا ينقص مقامه في العقبى كما قيل إن مقام الولي المشهور دون الولي الذي في زوايا الحمول، وإليه الإشارة بقولهم: الشهرة آفة، وقد نص على ذلك الشعراني في بعض كتبه إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وهم اليهود واختاروه لأنه اليوم الذي انتهت به أيام الخلق فكان بزعمهم أنسب لترك الأعمال الدنيوية وهو على ما قال الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات يوم الأبد الذي لا انقضاء له فليله في جهنم ونهاره في الجنة واختيار النصارى ليوم الأحد لأنه أول يوم اعتنى الله تعالى فيه بخلق الخلق فكان بزعمهم أولى بالتفرغ لعبادة الله تعالى وشكره سبحانه، وقد هدى الله تعالى لما هو أعظم من ذلك وهو يوم الجمعة الذي أكمل الله تعالى به الخلق وظهرت فيه حكمة الاقتداء بخلق الإنسان الذي خلق على صورة الرحمن فكان أولى بأن يتفرغ فيه الإنسان للعبادة والشكر من ذينك اليومين وسبحان من خلق فهدى وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ لما في ذلك من قهر النفس الموجب لترقيها إلى أعلى المقامات وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ قيل:
الصبر أقسام: صبر لله تعالى. وصبر في الله تعالى. وصبر مع الله تعالى. وصبر عن الله تعالى. وصبر بالله تعالى، فالصبر بالله تعالى هو من لوازم الإيمان وأول درجات الإسلام وهو حبس النفس عن الجزع عند فوات مرغوب أو وقوع مكروه وهو من فضائل الأخلاق الموهوبة من فضل الله تعالى لأهل دينه وطاعته المقتضية للثواب الجزيل. والصبر في الله تعالى هو الثبات في سلوك طريق الحق وتوطين النفس على المجاهدة بالاختيار وترك المألوفات واللذات وتحمل البليات وقوة العزيمة في التوجه إلى منبع الكمالات وهو من مقامات السالكين يهبه الله تعالى لمن يشاء من أهل الطريقة، والصبر مع الله تعالى هو لأهل الحضور والكشف عند التجرد عن ملابس الأفعال والصفات والتعرض لتجليات الجمال والجلال وتوارد واردات الأنس والهيبة فهو بحضور القلب لمن كان له قلب والاحتراس عن الغفلة والغيبة عند التلوينات بظهور النفس، وهو أشق على النفس من الضرب على الهام وإن كان لذيذا جدا، والصبر عن الله تعالى هو لأهل العيان