فأولئك الجامعون لما مر من الخصال الحميدة أعني إرادة الآخرة والسعي الجميل لها والإيمان كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً مثابا عليه مقبولا عنده تعالى بحسن القبول، وفسر بعضهم السعي هاهنا بالعمل الذي يعبر عنه بفعل فيشمل جميع ما تقدم وهذا غير السعي السابق، وقال بعضهم: هو هو وعلق المشكورية به دون قرينيه إشعارا بأنه العمدة فيها، وأصل السعي كما قال الراغب المشي السريع وهو دون العدو ويستعمل للجد في الأمر خيرا كان أو شرا وأكثر ما يستعمل في الأفعال المحمودة قال الشاعر:
إن أجز علقمة بن سعد سعيه ... لا أجزه ببلاء يوم واحد
كُلًّا التنوين فيه على المشهور عند النحاة عوض عن المضاف إليه لا تنوين تمكين أي كل الفريقين وهو مفعول نُمِدُّ مقدم عليه أي نزيد مرة بعد مرة بحيث يكون الآنف مددا للسالف وما به الإمداد ما عجل لأحدهما من العطايا العاجلة وما أعد للآخر من العطايا الآجلة المشار إليها بمشكورية السعي وإنما لم يصرح به تعويلا على ما سبق تصريحا وتلويحا واتكالا على ما لحق عبارة وإشارة، وقوله تعالى: هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ بدل من كُلًّا بدل كل على جهة التفصيل أي نمد هؤلاء المعجل لهم وهؤلاء المشكور سعيهم فإن الإشارة متعرضة لذات المشار إليه بما له من العنوان لا للذات فقط كالإضمار ففيه تذكير لما به الإمداد وتعيين للمضاف إليه المحذوف دفعا لتوهم كونه أفراد الفريق الأخير المريد للخير الحقيق بالإسعاف فقط وتأكيد للقصر المستفاد من تقديم المفعول، وقوله تعالى: مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ أي من معطاه الواسع الذي لا تناهي له فهو اسم مصدر واقع موقع اسم المفعول متعلق بنمد مغن عن ذكر ما به الإمداد ومنبه على أن الإمداد المذكور ليس بطريق الاستيجاب بالسعي والعمل بل بمحض التفضل كما قيل:
وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ أي دنيويا كان أو أخرويا.
والإظهار في موضع الإضمار لمزيد الاعتناء بشأنه والإشعار بعليته للحكم مَحْظُوراً ممنوعا عمن يريده بل هو فائض على من قدر له بموجب المشيئة المبنية على الحكمة وإن وجد فيه ما يقتضي الحظر كالكفر، وهذا في معنى التعليل لشمول الإمداد للفريقين، والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بمبدئيتها لكل من الإمداد وعدم الحظر.
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ كيف في محل النصب بفضلنا على الحال وليست مضافة للجملة كما توهم، والجملة بتمامها في محل نصب بانظر وهو معلق هنا، والمراد كما قال شيخ الإسلام توضيح ما مر من الإمداد وعدم محظورية العطاء بالتنبيه على استحضار مراتب أحد العطاءين والاستدلال بها على مراتب الآخر أي انظر بنظر الاعتبار كيف فضلنا بعضهم على بعض فيما أمددناهم من العطايا الآجلة وتفاوت أهلها على طريقة الاستدلال بحال الأدنى على حال الأعلى كما أفصح عنه قوله تعالى: وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا أي أكبر من درجات الدنيا وتفضيلها لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها العالية لا يقادر قدرها ولا يكتنه كنهها.
وفي بعض الآثار أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:«إن بين أعلى أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها وقد أرضى الله تعالى الجميع فما يغبط أحد أحدا»
وعن الضحاك الأعلى يرى فضله على من هو أسفل منه والأسفل لا يرى أن فوقه أحدا، وصح أن الله تعالى أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وروى ابن عبد البر في استيعاب عن الحسن قال: حضر جماعة من الناس باب عمر رضي الله تعالى عنه وفيهم سهيل بن عمرو القرشي وكان أحد الأشراف في الجاهلية وأبو سفيان بن حرب وأولئك المشايخ من قريش فأذن لصهيب وبلال وأهل بدر وكان يحبهم وكان قد أوصى لهم فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا فقال سهيل: وكان أعقلهم أيها القوم إني والله قد أرى الذي وجوهكم فإن كنتم