للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ابن مسعود أنه قال: التبذير إنفاق المال في غير حقه، وفي مفردات الراغب وغيره أن أصله إلقاء البذر وطرحه ثم استعير لتضييع المال، وعد من ذلك بعضهم تشييد الدار ونحوه، وفرق الماوردي بينه وبين الإسراف بأن الإسراف تجاوز في الكمية وهو جهل بمقادير الحقوق والتبذير تجاوز في موقع الحق وهو جهل بالكيفية وبمواقعها وكلاهما مذموم والثاني أدخل في الذم.

وفسر الزمخشري التبذير هنا بتفريق المال فيما لا ينبغي وإنفاقه على وجه الإسراف، وذكر أن فيه إشارة إلى أن التبذير شامل للإسراف في عرف اللغة ويراد منه حقيقة وإن فرق بينهما بما فرق، وفي الكشف بعد نقل الفرق والنص على أن الثاني أدخل في الذم أن الزمخشري لم يغب ذلك عليه لأن الاشتقاق يرشد إليه وإنما أراد أنه في الآية يتناول الإسراف أيضا بطريق الدلالة إذ لا يفترقان في الأحكام لا سيما وقد عقبه سبحانه بالحث على الاقتصاد المناسب لاعتبار الكمية المرشد إلى إرادته من النص، وتعقب بأنه إذا كان التبذير أدخل في الذم من الإسراف كيف يتناوله بطريق الدلالة والنهي عن الإسراف فيما بعد يبعد إرادته هاهنا فتأمل.

إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ تعليل للنهي عن التبذير ببيان أنه يجعل صاحبه ملزوزا في قرن الشياطين، والإخوان جمع أخ والمراد به الممائل مجازا أي إنهم مماثلون لهم في صفات السوء التي من جملتها التبذير أو الصديق والتابع مجازا أيضا أي إنهم أصدقاؤهم وأتباعهم فيما ذكر من التبذير والصرف في المعاصي فإنهم كانوا ينحرون الإبل ويتياسرون عليها ويبذرون أموالهم في السمعة وسائر ما لا خير فيه من المناهي والملاهي أو القرين كما سبق أيضا أي أنهم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد.

وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً من تتمة التعليل أي مبالغا في كفران نعمه تعالى لأن شأنه صرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى والقدر إلى غير ما خلقت له من أنواع المعاصي والإفساد في الأرض وإضلال الناس وحملهم على الكفر بالله تعالى وكفران نعمه الفائضة عليهم وصرفها إلى غير ما أمر الله تعالى به.

وفي تخصيص هذا الوصف بالذكر من بين صفاته القبيحة إيذان بأن التبذير الذي هو عبارة عن صرف نعم الله تعالى إلى غير مصرفها من باب الكفران المقابل للشكر الذي هو صرفها إلى ما خلقت له، وفي التعرض لعنوان الربوبية إشعار بكمال عتوه كما لا يخفى. ويشعر كلام بعضهم بجواز حمل الكفر هنا على ما يقابل الإيمان وليس بذاك.

وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ أي عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل على ما هو الظاهر، وقيل عن السائلين مطلقا، والإعراض في الأصل إظهار العرض أي الناحية فمعنى أعرض عنه ولى مبديا عرضه، والمراد به هنا حقيقته على ما قيل بناء على ما

روي من أنه صلّى الله عليه وسلّم كان إذا سئل شيئا ليس عنده صرف وجهه الشريف وسكت فنزلت وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها

والخطاب عام له صلّى الله عليه وسلّم ولغيره والمراد بالرحمة على ما أخرج ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد والضحاك الرزق، ونصب ابْتِغاءَ على أنه مفعول له.

قال في الكشف قد أقيم ابتغاء الرزق مقام فقدانه وفيه لطف فكان ذلك الإعراض لأجل السعي لهم وهو من وضع المسبب موضع السبب كما أوضحه في الكشاف، وقد يفسر الابتغاء بالانتظار ويجوز جعله في موضع الحال من ضمير تُعْرِضَنَّ أي مبتغيا، وجعله حالا من الضمير المجرور بعيد.

وجوز أن يكون الإعراض كناية عن عدم النفع وترك الإعطاء لأنه لازمه عرفا والابتغاء مجازا عن عدم الاستطاعة والتعلق أيضا بالشرط وأيد ذلك بما

أخرجه سعيد بن منصور. وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال: جاء ناس من مزينة يستحملون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا» ظنوا ذلك من غضب

<<  <  ج: ص:  >  >>