من الغنى مع الإسراف فَتَقْعُدَ مَلُوماً أي فتصير ملوما عند الله تعالى وعند الناس مَحْسُوراً نادما مغموما أو منقطعا بك لا شيء عندك من حسره السفر أعياه وأوقفه حتى انقطع عن رفقته، قال الراغب: يقال للمعيي حاسر ومحسور أما الحاسر فتصور أنه قد حسر بنفسه قواه وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره وهذا بيان قبح الإسراف المفهوم من النهي الأخير، وبين في أثره لأن غائلة الإسراف في آخره وحيث كان قبح الشح المفهوم من النهي الأول مقارنا له معلوما من أول الأمر روعي ذلك في التصوير بأقبح الصور ولم يسلك فيه مسلك ما بعده كذا قيل، وفي أثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخرجه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم ما يقتضيه، وقال بعض المحققين: الأولى أن يكون ذلك بيانا لقبح الأمرين ويعتبر التوزيع «فتقعد» منصوب في جواب النهيين والملوم راجع إلى قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ كما قيل: إن البخيل ملوم حيثما كانا والمحسور راجع إلى قوله سبحانه: وَلا تَبْسُطْها وليس ببعيد.
وفي الكشاف عن جابر: «بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس إذ أتاه صبي فقال: إن أمي تستكسيك درعا فقال: من ساعة إلى ساعة يظهر فعد إلينا فذهب إلى أمه فقالت: قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك فدخل صلّى الله عليه وسلّم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا وأذن بلال وانتظر فلم يخرج عليه الصلاة والسلام إلى الصلاة فنزلت»
وأنت تعلم أنه يأبى هذا كون السورة مكية والآية ليست من المستثنيات ولعل الخبر لم يثبت فعن ولي الدين العراقي أنه لم يجده في شيء من كتب الحديث أي بهذا اللفظ وإلا
فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: جاء غلام إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن أمي تسألك كذا وكذا فقال: ما عندنا اليوم شيء قال: فتقول لك اكسني قميصك فخلع عليه الصلاة والسلام قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت حاسرا فنزلت، وأخرج ابن أبي حاتم عن المنهال ابن عمرو نحوه
وليس في شيء منهما حديث أذان بلال وما بعده،
وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصن الفزاري فجاء عباس بن مرداس فأنشأ يقول:
أتجعل نهبي ونهب العبي د بين عيينة والأقرع وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع وما كنت دون امرئ منهما ومن يخفض اليوم لم يرفع فقال صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا بكر اقطع لسانه عني أعطه مائة من الإبل وكانوا جميعا من المؤلفة قلوبهم فنزلت
، وفيه الإباء السابق كما لا يخفى، وكذا ما
أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن سيار أبي الحكم قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بزمن العراق وكان معطاء كريما فقسمه بين الناس فبلغ ذلك قوما من العرب فقالوا: نأتي النبي صلّى الله عليه وسلّم نسأله فوجدوه قد فرغ منه فأنزل الله تعالى الآية.
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ تعليل لقوله سبحانه وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ إلخ كأنه قيل: إن أعرضت عنهم لفقد الرزق فقل لهم قولا ميسورا ولا تهتم لذلك فإن ذلك ليس لهوان منك عليه تعالى بل لأن بيده جل وعلا مقاليد الرزق وهو سبحانه يوسعه على بعض ويضيقه على بعض حسبما تتعلق به مشيئته التابعة للحكمة فما يعرض لك في بعض الأحيان من ضيق الحال الذي يحوجك إلى الإعراض ليس إلا لمصلحتك فيكون قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ إلخ معترضا تأكيدا لمعنى ما تقتضيه حكمته عز وجل من القبض والبسط، وقوله تعالى: إِنَّهُ سبحانه كانَ لم يزل ولا يزال بِعِبادِهِ جميعهم خَبِيراً عالما بسرهم بَصِيراً عالما بعلنهم فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم تعليل لسابقه، وجوز أن يكون ذلك تعليلا للأمر بالاقتصاد المستفاد من النهيين إما على معنى أن البسط والقبض أمران مختصان بالله تعالى وأما أنت فاقتصد واترك ما هو مختص به جل وعلا أو على معنى أنكم إذا تحققتم