فتكون على طرز كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ [الذاريات: ١٧] ، ولا يخفى ما فيه من التكلف، وجوز أيضا انتصاب قليلا على الحال إما من ضمير الإيمان أو من فاعل يُؤْمِنُونَ والتقدير فيؤمنونه أي الإيمان في حال قلته، وهو المروي عن سيبويه أو «فيؤمنون» حال كونهم جمعا قليلا أي المؤمن منهم قليل، وهو المروي عن ابن عباس وطلحة وقتادة، ولذا جوز كونه نعتا للزمان أي زمانا قليلا وهو زمان الاستفتاح أو بلوغ الروح التراقي، أو ما قالوا آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [آل عمران: ٧٢] وأولى الوجوه أولها، والظاهر أن المراد بالإيمان المعنى اللغوي، والقلة مقابل الكثرة، وقال الزمخشري: يجوز أن تكون بمعنى العدم، وكأنه أخذه من كلام الواقدي لا قليلا ولا كثيرا واعترضه في البحر بأن القلة بمعنى النفي، وإن صحت لكن في غير هذا التركيب لأن قليلا انتصب بالفعل المثبت، فصار نظير قمت قليلا أي قياما قليلا، ولا يذهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت، وجعلت قليلا صفة لمصدره يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأسا، وعدم وقوعه بالكلية، وإنما الذي نقل النحويون أنه قد يراد بالقلة النفي المحض في قولهم- أقل رجل يقول ذلك، وقلما يقوم زيد- فحملها هنا على ذلك ليس بصحيح، وليت شعري أي معنى لقولنا يُؤْمِنُونَ إيمانا معدوما، وما نقل الكسائي عن العرب أنهم يقولون: مررنا بأرض قليلا ما تنبت ويريدون لا تنبت شيئا فإنما ذلك لأن قليلا حال من الأرض، وإن كان نكرة، وما مصدرية والتقدير قليلا إنباتها فلا مانع فيه من حمل القلة على العدم- وأين ما نحن فيه- من ذاك اللهم إلا على بعض الوجوه المرجوحة لكن الزمخشري غير قائل به، ويمكن أن يقال: إن ذلك على طريق الكناية فإن قلة الشيء تستتبع عدمه في أكثر الأوقات لا على أن لفظ القلة مستعمل بمعنى العدم فإنه هنا قول بارد جدا ولو أوقد عليه الواقدي ألف سنة.
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وهو القرآن وتنكيره للتعظيم ووصفه بما عنده للتشريف والإيذان بأنه جدير بأن يقبل ما فيه ويتبع لأنه من خالقهم وإلههم الناظر في مصالحهم، والجملة عطف على قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ أي وكذبوا لما جاءهم إلخ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من كتابهم أي نازل حسبما نعت أو مطابق له، ومُصَدِّقٌ صفة ثانية لكتاب وقدمت الأولى عليها لأن الوصف بكينونته من عنده تعالى آكد ووصفه بالتصديق ناشىء عنها وجعله مصدقا ل «كتابهم» لا مصدقا به إشارة إلى أنه بمنزلة الواقع ونفس الأمر لكتابهم لكونه مشتملا على الإخبار عنه محتاجا في صدقه إليه وإلى أنه بإعجازه مستغن عن تصديق الغير، وفي مصحف أبيّ «مصدقا» بالنصب، وبه قرأ ابن أبي عبلة، وهو حينئذ حال من الضمير المستقر في الظرف، أو من كتاب لتخصيصه بالوصف المقرب له من المعرفة، واحتمال أن الظرف لغو متعلق ب جاءَهُمْ بعيد- فلا يضر- على أن سيبويه جوّز مجيء الحال من النكرة بلا شرط وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا نزلت في بني قريظة والنضير كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل مبعثه- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة- والمعنى يطلبون من الله تعالى أن ينصرهم به على المشركين، كما روى السدي أنهم كانوا إذا اشتد الحرب بينهم وبين المشركين أخرجوا التوراة ووضعوا أيديهم على موضع ذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقالوا: اللهم إنا نسألك بحق نبيك الذي وعدتنا أن تبعثه في آخر الزمان أن تنصرنا اليوم على عدونا فينصرون- فالسين- للطلب- والفتح- متضمن معنى النصر بواسطة عَلَى أو يفتحون عليهم من قولهم: فتح عليه إذا علمه ووقفه كما في قوله تعالى: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [البقرة: ٧٦] أي يعرفون المشركين أن نبيا يبعث منهم وقد قرب زمانه- فالسين- زائدة للمبالغة، كأنهم فتحوا بعد طلبه من أنفسهم- والشيء بعد الطلب أبلغ- وهو من باب التجريد، جرّدوا من أنفسهم أشخاصا وسألوهم