قد علمت أن الشر الذي هو بمعنى العدم منه ما هو من لوازم الماهيات التي لا علة لها ومنه ما لا يكون من هذا القبيل بل قد يلحق الماهيات لا من ذاتها فلا بد له من علة والكلام ليس في الأول الذي لا لمية له إذ قد تقرر أنه ليس للماهيات في كونها ممكنة ولا في حاجتها إلى علة لوجودها علة ولا لقصور الممكن عن الواجب بذاته ولا لتفاوت مراتب هذا النقصان في الماهيات علة بل إنما ذلك لاختلاف الماهيات في حدود ذاتها لا لأمر خارج عنها كيف ولو كان النقص في جميعها متشابها لكانت الماهيات ماهية واحدة بل الكلام في الثاني وهو عدم ما هو من الأمور الزائدة على مقتضى النوع كالجهل بالفلسفة للإنسان مثلا فإن ذلك ليس شرا له لأجل كونه إنسانا بل لأجل أنه فقد لما اقتضاه شخص مستعد له مشتاق إليه من حيث إنه وجد فيه هذا الاستحقاق والاشتياق الذي لا صلاح في أن يعم.
وهذا الشر إنما يوجد في الأشياء على سبيل الندرة فكل ما وجد فهو خير محض أو خيره أكثر من شره، وأما ما يكون شرا محضا أو مستولي الشرية أو متساوي الطرفين فمما لا وجود له أصلا حتى يحتاج فيه إلى منشأ سوى الواجب تعالى الذي هو خير محض لا يوجد منه شر أصلا كما توهمه كفرة المجوس، ثم كل ما كان خيرا محضا أو كان خيره أكثر يصدر من الواجب بمقتضى أن من شأنه إفاضة الخير لأن ترك الأول شر محض وترك الثاني شر غالب، وعالم العناصر من القسم الثاني فإن إيجابه للشرور على الوجه النادر ولا تسوغ عناية المبدع ورحمة الجواد إهماله وإلا لزم خير كثير لشر قليل وهو شر كثير على أنها إنما تكون للنفع في أشياء لو لم تخلق لخلق سربال الوجود وقصر رداء الجود وبقي في كتم العدم عوالم كثيرة ونفائس جمة غفيرة فمن هذه الحيثية يكون ذلك الشر القليل مقتضيا بالذات وهي مع ذلك إنما توجد تحت كرة القمر في بعض جوانب الأرض التي هي حقيرة بل لا شيء بالنسبة إلى ما عند ربك سبحانه وتكون لبعض الأشخاص في بعض الأوقات وليست أيضا شرورا بالنسبة إلى نظام الكل فإذا تصورت ذرة الشر في أبحر أشعة شمس الخير لا يضرها بل يزيدها بهاء وجمالا وضياء وكمالا كالشامة السوداء على الصورة المليحة البيضاء يزيدها حسنا وملاحة وإشراقا وصباحة.
ولا يخفى أن هذا إنما يتم على القول بأنه تعالى لا يمكن أن تكون إرادته متساوية النسبة إلى الشيء ومقابله بلا داع ومصلحة كما هو مذهب الأشاعرة وإلا فقد يقال: إن الفاعل للكل إذا كان مختارا فله أن يختار أيما شاء من الخيرات والشرور لكن الحكماء وأساطين الإسلام قالوا: إن اختياره تعالى أرفع من هذا النمط وأمور العالم منوطة بقوانين كلية وأفعاله تعالى مربوطة بحكم ومصالح جلية وخفية.
وقول الإمام: إن الفلاسفة لما قالوا بالإيجاب والجبر في الأفعال فخوضهم في هذا المبحث من جملة الفضول والضلال لأن السؤال بلم عن صدورها غير وارد كصدور الإحراق من النار لأنه يصدر عنها لذاتها ناشىء من التعصب لأن محققيهم يثبتون الاختيار وليس صدور الأفعال من الله تعالى عندهم صدور الإحراق من النار، وبعد فرض التسليم بحثهم عن كيفية وقوع الشر في هذا العالم لأجل أن الباري تبارك اسمه خير محض بسيط عندهم ولا يجوزون صدور الشر عما لا جهة شرية فيه أصلا فيلزم عليهم في بادىء النظر إثبات ما افترته الثنوية من مبدأين خيري وشري فتخلصوا عن ذلك بذلك البحث فهو فضل لا فضول، وبالجملة ما يصدر عنه تعالى إما ما هو بريء بالكلية عن الشر وإما ما يلزمه شر قليل وفي تركه شر كثير ولا يصدر عنه تعالى ذلك أيضا في حق شخص إلا بعد طلب ماهيته له في نفسها كما يشير إليه قوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: ٥٠] إلى غير ذلك من الآيات.
وفي الإشارات وشروحها كلام طويل يتعلق بهذا المقام ولعل فيما ذكرنا كفاية لذوي الأفهام.