إلى أن اللائق بهم استعمال الورع ألا ترى كيف طلب القائل الأزكى وهو على ما في بعض الروايات الأجل، ولذلك قال ذو النون: العارف من لا يطفىء نور معرفته نور ورعه، والعجب أن رجلا من المتشيخين كان يأخذ من بعض الظلمة دنانير مقطوعا بحرمتها فقيل له في ذلك فقال: نعم هي جمرات ولكن تطفئ حرارة جوع السالكين، ومع هذا وأمثاله له اليوم مرقد يطوف به من يزور وتوقد عليه السرج وتنذر له النذور، ورابعا إلى أنه ينبغي لهم التواصي بحسن الخلق وجميل الرفق ألا ترى كيف قال قائلهم وَلْيَتَلَطَّفْ بناء على أنه أمر بحسن المعاملة مع من يشتري منه.
وقال بعض أهل التأويل: إنه أمر باختيار اللطيف من الطعام لأنهم لم يأكلوا مدة فالكثيف يضر بأجسامهم، وقيل:
أرادوا اللطيف لأن أرواحهم من عالم القدس ولا يناسبها إلا اللطيف، وعن يوسف بن الحسين أنه كان يقول: إذا اشتريت لأهل المعرفة شيئا من الطعام فليكن لطيفا وإذا اشتريت للزهاد والعباد فاشتر كل ما تجد لأنهم بعد في تذليل أنفسهم، وقال بعضهم: طعام أهل المجاهدات وأصحاب الرياضات ولباسهم الخشن من المأكولات والملبوسات والذي بلغ المعرفة فلا يوافقه إلا كل لطيف، ويروى عن الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره أنه كان في آخر أمره يلبس ناعما ويأكل لطيفا. وعندي أن التزام ذلك يخل بالكمال، وما يروى عن الشيخ قدس سره وأمثاله إن صح يحتمل أن يكون أمرا اتفاقيا، وعلى فرض أنه كان عن التزام يحتمل أنه كان لغرض شرعي وإلا فهو خلاف المأثور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن كبار أصحابه رضي الله تعالى عنهم، فقد بين في الكتب الصحيحة حالهم في المأكل والملبس وليس فيها ما يؤيد كلام يوسف بن الحسين وأضرابه والله تعالى أعلم وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً أي من الأغيار المحجوبين عن مطالعة الأنوار والوقوف على الأسرار إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ بأحجار الإنكار أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ التي اجتمعوا عليها ولم ينزل الله تعالى بها من سلطان وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً لأن الكفر حينئذ يكون كالكفر الإبليسي وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إرشاد إلى محض التجريد والتفريد، ويحكى عن بعض كبار الصوفية أنه أمر بعض تلامذته بفعل شيء فقال: أفعله إن شاء الله تعالى فقال له الشيخ بالفارسية ما معناه: يا مجنون فإذا من أنت، والآية تأبى هذا الكلام غاية الإباء وفيه على مذهب أهل الوحدة أيضا ما فيه، وقيل الآية نهي عن أن يحبر صلّى الله عليه وسلّم عن الحق بدون إذن الحق سبحانه. ففيه إرشاد للمشايخ إلى أنه لا ينبغي لهم التكلم بالحقائق بدون الإذن ولهم أمارات للإذن يعرفونها.
وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ قيل أي إذا نسيت الكون بأسره حتى نفسك فإن الذكر لا يصفو إلا حينئذ، وقيل إذا نسيت الذكر، ومن هنا قال الجنيد قدس سره: حقيقة الذكر الفناء بالمذكور عن الذكر، وقال قدس سره في قوله تعالى: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً إن فوق الذكر منزلة هي أقرب منزلة من الذكر وهي تجديد النعوت بذكره سبحانه لك قبل أن تذكره جل وعلا وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً زعم بعض أهل التأويل أن مجموع ذلك خمس وعشرون سنة واعتبر السنة التي في الآية شهرا وهو زعم لا داعي إليه إلا ضعف الدين ومخالفة جماعة المسلمين وإلا فأي ضرر في إبقاء ذلك على ظاهره وهو أمر ممكن أخبر به الصادق، ومما يدل على إمكان هذا اللبث أن أبا علي بن سينا ذكر في باب الزمان من الشفاء أن أرسطو ذكر أنه عرض لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف قال أبو علي: ويدل التاريخ على أنهم قبل أصحاب الكهف انتهى.
وفي الآية على ما قيل إشارة إلى أن المريد الذي يربيه الله سبحانه بلا واسطة المشايخ يصل في مدة مديدة وسنين عديدة والذي يربيه جل جلاله بواسطتهم يتم أمره في أربعينيات وقد يتم في أيام معدودات، وأنا أقول لا حجر على الله سبحانه وقد أوصل جل وعلا كثيرا من عباده بلا واسطة في سويعات لَهُ تعالى شأنه غَيْبُ السَّماواتِ