القذف في قلوبهما «ببابل» الباء بمعنى في وهي متعلقة- بأنزل- أو بمحذوف وقع حالا من الْمَلَكَيْنِ أو من الضمير في أُنْزِلَ وهي كما قال ابن عباس. وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما: بلد في سواد الكوفة، وقيل:
بابل العراق، وقال قتادة: هي من نصيبين إلى رأس العين، وقيل: جبل دماوند، وقيل: بلد بالمغرب- والمشهور اليوم الثاني- وعند البعض هو الأول، قيل وسميت بابل لتبلبل الألسنة فيها عند سقوط صرح نمرود، وأخرج الدينوري في المجالسة وابن عساكر من طريق نعيم ابن سالم- وهو متهم- عن أنس بن مالك قال: لما حشر الله تعالى الخلائق إلى بابل بعث إليهم ريحا شرقية وغربية وقبلية وبحرية فجمعتهم إلى بابل فاجتمعوا يومئذ ينظرون لما حشروا له إذ نادى مناد من جعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره واقتصد إلى البيت الحرام بوجهه فله كلام أهل السماء فقام يعرب بن قحطان فقيل له: يا يعرب بن قحطان بن هود أنت هو فكان أول من تكلم بالعربية فلم يزل المنادي ينادي من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا حتى افترقوا على اثنين وسبعين لسانا وانقطع الصوت وتبلبلت الألسن فسميت بابل وكان اللسان يومئذ بابليا، وعندي في القولين تردد يلف عدم قبول، والذي أميل إليه أن بابل اسم أعجمي كما نص عليه أبو حيان لا عربي كما يشير إليه كلام الأخفش، وأنه في الأصل اسم للنهر الكبير في بعض اللغات الأعجمية القديمة وقد أطلق على تلك الأرض لقرب الفرات منها، ولعل ذلك من قبيل تسمية بغداد دار السلام بناء على أن السلام اسم لدجلة، وقد رأيت لذلك تفصيلا لا أدريه اليوم في أي كتاب.
وأظنه قريبا مما ذكرته فليحفظ، ومنع بعضهم الصلاة بأرض بابل احتجاجا بما
أخرج أبو داود وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن علي كرم الله تعالى وجهه أن حبيبي صلّى الله عليه وسلّم نهاني أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة،
وقال الخطابي: في إسناد هذا الحديث مقال، ولا أعلم أحدا من العلماء حرم الصلاة بها، ويشبه إن ثبت الحديث أن يكون نهاه عن أن يتخذها وطنا ومقاما فإذا أقام بها كانت صلاته فيها وهذا من باب التعليق في علم البيان، أو لعل النهي له خاصة ألا ترى قال: نهاني، ومثله
حديث آخر نهاني أقرأ ساجدا أو راكعا ولا أقول نهاكم،
وكان ذلك إنذارا منه بما لقي من المحنة في تلك الناحية هارُوتَ وَمارُوتَ عطف بيان- للملكين- وهما اسمان أعجميان لهما منعا من الصرف للعلمية والعجمة وقيل: عربيان من الهرت والمرت بمعنى الكسر وكان اسمهما قبل عزا وعزايا فلما قارفا الذنب سميا بذلك، ويشكل عليه منعهما من الصرف، وليس إلا العلمية، وتكلف له بعضهم بأنه يحتمل أن يقال: إنهما معدولان من الهارت والمارت، وانحصار العدل في الأوزان المحفوظة غير مسلم، وهو كما ترى، وقرأ الحسن والزهري برفعهما على أن التقدير هما هاروت وماروت، ومما يقضي منه العجب ما قاله الإمام القرطبي: إن هاروت وماروت بدل من الشياطين على قراءة التشديد، وما في وَما أُنْزِلَ نافية، والمراد من الملكين جبرائيل وميكائيل لأن اليهود زعموا أن الله تعالى أنزلهما بالسحر، وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ هارُوتَ وَمارُوتَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ بِبابِلَ وعليه فالبدل إما بدل بعض من كل، ونص عليهما بالذكر لتمردهما، ولكونهما رأسا في التعليم، أو بدل كل من كل إما بناء على أن الجمع يطلق على الاثنين أو على أنهما عبارتان عن قبيلتين من الشياطين لم يكن غيرهما بهذه الصفة، وأعجب من قوله هذا قوله: وهذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل وأصح ما قيل فيها، ولا تلتفت إلى ما سواه، ولا يخفى لدى كل منصف أنه لا ينبغي لمؤمن حمل كلام الله تعالى- وهو في أعلى مراتب البلاغة والفصاحة- على ما هو أدنى من ذلك وما هو إلا مسخ لكتاب الله تعالى عز شأنه وإهباط له عن شأوه ومفاسد قلة البضاعة لا تحصى، وقيل إنهما بدل من الناس أي يُعَلِّمُونَ النَّاسَ خصوصا هارُوتَ وَمارُوتَ والنفي هو النفي.