إلا أن هذا لا يدل على المخالفة فإن الكشوف والعلوم الغيبية ثمرة الإخلاص الذي هو الجزء الثالث من أجزاء الشريعة فهي بالحقيقة مترتبة على الشريعة ونتيجة لها ومع هذا لا تغير تلك الكشوف والعلوم الغيبية حكما شرعيا ولا تقيد مطلقا ولا تطلق مقيدا خلافا لما توهمه ساجقلي زاده حيث قال في شرح عبارة الاحياء السابقة آنفا: يريد الغزالي من الباطن ما ينكشف لعلماء الباطن من حل بعض الأشياء لهم مع أن الشارع حرمه على عباده مطلقا فيجب أن يقال: إنما انكشف حله لهم لما انكشف لهم من سبب خفي يحلله لهم وتحريم الشارع تعالى ذلك على عباده مقيد بانتقاء انكشاف السبب المحلل لهم فمن انكشف له ذلك السبب حل له ومن لا فلا لكن الشارع سبحانه حرّمه على عادة على الإطلاق وترك ذلك القيد لندرة وقوعه إذ من ينكشف له قليل جدا مثاله انكشاف محل خرق السفينة وقتل الغلام للخضر عليه السّلام فحل له بذلك الانكشاف الخرق والقتل وحلهما له مخالف لإطلاق نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم أمته عن الضرر وعن قتل الصبي لكنهما مقيدان فالأول مقيد بما إذا لم يعلم هناك غاصب مثلا والثاني بما إذا لم يعلم أن الصبي سيصير ضالا مضلا لكن الشارع ترك القيدين لندرة وقوعهما واعتمادا على فهم الراسخين في العلم إياهما إلى آخر ما قال فإن النصوص السابقة تنادي بخلافه كما سمعت، ثم إن تلك الغيوب والمكاشفات بل سائر ما يحصل للصوفية من التجليات ليست من المقاصد بالذات ولا يقف عندها الكامل ولا يلتفت إليها، وقد ذكر الإمام الرباني قدس سره في المكتوب السادس والثلاثين المتقدم نقل بعضه أنها تربي بها أطفال الطريق وأنه ينبغي مجاوزتها والوصول إلى مقام الرضا الذي هو نهاية مقامات السلوك والجذبة وهو عزيز لا يصل إليه إلا واحد من ألوف، ثم قال: إن الذين هم قليلو النظر يعدون الأحوال والمواجيد من المقامات والمشاهدات والتجليات من المطالب فلا جرم بقوا في قيد الوهم والخيال وصاروا محرومين من كمالات الشريعة كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [الشورى: ١٣] انتهى، ويعلم منه أن الكاملين في الشريعة يعبرون على ذلك ولا يلتفتون إليه ولا يعدونه مقصدا وجل مقصدهم تحصيل مقام الرضا، وعلى هذا يخرج بيت المثنوي حيث يقول:
زان طرف كه عشق من افزود درد ... بو حنيفة شافعي درسي نكرد
وقد يحجب الكامل عن جميع ذلك ويلحق من هذه الحيثية بعوام الناس، ويعلم مما ذكر أن موسى عليه السّلام أكمل من الخضر وأعلمية الخضر عليه السّلام بعلم الحقيقة كانت بالنسبة إلى الحالة الحاضرة فإن موسى عليه السّلام عبر على ذلك ولم يقف عنده لأنه في مقام التشريع، ولعل طلبه التعليم كان بالأمر ابتلاء له بسبب تلك الفلتة، وقد ذكروا أن الكامل كلما كان صعوده أعلا كان هبوطه أنزل وكلما كان هبوطه أنزل كان في الإرشاد أكمل في الإفاضة أتم لمزيد المناسبة حينئذ بين المرشد والمسترشد، ولهذا قالوا فيما يحكى: إن الحسن البصري وقف على شط نهر ينتظر سفينة فجاء حبيب العجمي فقال له: ما تنتظر؟ فقال: سفينة فقال: أي حاجة إلى السفينة أما لك يقين؟ فقال الحسن: أما لك علم؟ ثم عبر حبيب على الماء بلا سفينة ووقف الحسن أن الفضل للحسن فإنه كان جامعا بين علم اليقين وعين اليقين وعرف الأشياء كما هي وفي نفس الأمر جعلت القدرة مستورة خلف الحكمة والحكمة في الأسباب وحبيب صاحب سكر لم ير الأسباب فعومل برفعها، ومن هنا يظهر سر قلة الخوارق في الصحابة مع قول الإمام الرباني: إن نهاية أويس سيد التابعين بداية وحشي قاتل حمزة يوم أسلم فما الظن بغير أويس مع غير وحشي، وأنا أقول: إن الكامل وإن كان من علمت إلا أن فوقه الأكمل وهو من لم يزل صاعدا في نزوله ونازلا في صعوده وليس ذلك إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولولا ذلك ما أمد العالم العلوي والسفلي، وهذا مرجع الحقيقة والشريعة له عليه الصلاة والسّلام على الوجه الأتم كما أشرنا إليه سابقا والحمد لله تعالى على أن جعلنا من أمته وذريته، ولا يعكر على ما ذكرنا