تتقي الله تعالى وتخشاه وتحتفل بالاستعاذة به فإني عائذة به منك كذا قدره الزمخشري.
وفي الكشف أنه أشار إلى أن وجه هذا الشرط مع أن الاستعاذة بالرحمن إن لم يكن تقيا أولى أن أثر الاستجارة بالله تعالى أعنى مكافته وأمنها منه إنما يتم ويظهر بالنسبة إلى المتقي، وفيه دلالة على أن التقوى مما تقتضي للمستعيذ بالله تعالى حق الذمام والمحافظة وعلى عظم مكان التقوى حيث جعلت شرطا للاستعاذة لا تتم دونها وقال: إن كان يرجى إظهارا لمعنى أن وأنها إنما أوثرت دلالة على أن رجاء التقوى كان فضلا عن العلم بها.
والحاصل أن التقوى لم تجعل شرط الاستعاذة بل شرط مكافته وأمنها منه وكنت عن ذلك بالاستعاذة بالله تعالى حثا له على المكافة بألطف وجه وأبلغه وإن من تعرض للمستعيذ به فقد تعرض لعظيم سخطه انتهى.
وقدر الزجاج إن كنت تقيا فتتعظ بتعويذي، والأولى عليه تتعظ بإسقاط الفاء لأن المضارع الواقع جوابا لا يقترن بالفاء فيحتاج إلى جعله مرفوعا بتقدير مبتدأ، وقدر بعضهم فاذهب عني وبعضهم فلا تتعرض بي وقيل إنها أرادت إن كنت تقيا متورعا فإني أعوذ منك فكيف إذا لم تكن كذلك وكأنه أراد أنها استعاذت بهذا الشرط ليعلم استعاذتها بما يقابله من باب أولي، وقال الشهاب: الظاهر أن إن على هذا القول وصلية وفي مجيئها بدون الواو كلام، وذكر أن الجملة على هذا حالية والمقصود بها الالتجاء إلى الله تعالى من شره لا حثه على الانزجار وقيل نافية، والجملة استئناف في موضع التعليل أي ما كنت تقيا متورعا بحضورك عندي وانفرادك بي وهو خلاف الظاهر، وأيّا ما كان فالتقيّ وصف من التقوى، وقول من قال: إنه اسم رجل صالح أو طالح ليس بسديد.
قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
المالك لأمرك والناظر في مصلحتك الذي استعذت به ولست ممن يتوقع منه ما توهمت من الشر. روي عن ابن عباس أنها لما قالت: إِنِّي أَعُوذُ
إلخ تبسم جبريل عليه السّلام وقال: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً
أي لأكون سببا في هبته بالنفخ في الدرع، ويجوز أن يكون حكاية لقوله تعالى بتقدير القول أي ربك الذي قال أرسلت هذا الملك لأهب لك، ويؤيده قراءة شيبة وأبي الحسن وأبي بحرية والزهري وابن مناذر ويعقوب واليزيدي وأبي عمرو ونافع في رواية ليهب بالياء فإن فاعله ضمير الرب تعالى. وما قيل: من أصل «ليهب» لأهب فقلبت الهمزة ياء لانكسار ما قبلها تعسف من غير داع له.
وفي بعض المصاحف: أمرني أن أهب لك غلاما زَكِيًّا
طاهرا من الذنوب. وقيل: نبيا. وقيل: ناميا على الخير أي مترقيا من سن إلى سن على الخير والصلاح فالزكا شامل للزيادة المعنوية والحسية. واستدل بعضهم برسالة الملك إليها على نبوتها.
وأجيب: بأن الرسالة لمثل ذلك لا تستدعي النبوة قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أي والحال أنه لم يباشرني بالحلال رجل وإنما قيل بشر مبالغة في تنزهها من مبادئ الولادة وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا أي ولم أكن زانية، والجملة عطف على لم يمسسني داخل معه في حكم الحالية مفصح عن كون المساس عبارة عن المباشرة بالحلال وهو كناية عن ذلك كما في قوله تعالى مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: ٢٣٧، الأحزاب: ٤٩] ولامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء: ٤٣، المائدة: ٦] ونحوه كما قيل دخلتم بهن وبني عليها.
وأما الزنا فليس بقمن أن يكنى عنه لأن مقامه إما تطهير اللسان فلا كناية ولا تصريح وإما التقريع فحينئذ يستحق الزيادة على التصريح والألفاظ التي يظن أنها كناية فيه قد شاعت حتى صارت حقيقة صريحة فيه ومنها ما في النظم الكريم، ولا يرد على ذلك ما في سورة آل عمران من قولها وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ مقتصرة عليه فإن غاية ما قيل فيه إنه كناية عن النكاح والزنا على سبيل التغليب، ولم يجعل كناية عن الزنا وحده، ولقائل أن يقول: إنه ثم كناية عن النكاح