للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويستكثرها ويستعظمها ثم يريه تعالى عقب ذلك الآية العظيمة كأنه جل وعلا يقول: أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعة ومأربة كنت تعتد بها وتحتفل بشأنها فما طالبة للوصف أو يقدر المنفعة بعدها. واختيار ما يدل على البعد في اسم الإشارة للإشارة إلى التعظيم وكذا في النداء إيماء إليه والتعداد في الجواب لأجله، ومَآرِبُ أُخْرى تتميم للاستعظام بأنها أكثر من أن تحصى، وذكر العصا في الجواب ليجري عليها النعوت المادحة وفيه من تعظيم شأنها ما ليس في ترك ذكرها، ويندفع بهذا ما أورد من أنه يلزم على هذا الوجه استدراك هِيَ عَصايَ إذ لا دخل له في تعداد المنافع.

ويجوز أن يكون المراد إظهاره عليه السّلام حقارتها ليريه عز وجل عظيم ما يخترعه في الخشبة اليابسة مما يدل على باهر قدرته سبحانه كما هو شأن من أراد أن يظهر من الشيء الحقير شيئا عظيما فإنه يعرضه على الحاضرين ويقول ما هذا؟ فيقولون هو الشيء الفلاني ويصفونه بما يبعد عما يريد إظهاره منه ثم يظهر ذلك فما طالبة للجنس وتِلْكَ للتحقير والتعداد في الجواب لأجله مَآرِبُ أُخْرى تتميم لذلك أيضا بأن المسكوت عنه من جنس المنطوق فكأنه عليه السّلام قال: هي خشبة يابسة لا تنفع إلا منافع سائر الخشبات ولذلك ذكر عليه السّلام العصا وأجرى عليها ما أجرى، وقيل: إنه عليه السّلام لما رأى من آيات ربه ما رأى غلبت عليه الدهشة والهيبة فسأله سبحانه وتكلم معه إزالة لتلك الهيبة والدهشة فما طالبة إما للوصف أو للجنس وتكرير النداء لزيادة التأنيس، ولعل اختيار ما يدل على البعد في اسم الإشارة لتنزيل العصا منزلة البعيد لغفلته عليه السّلام عنها بما غلب عليه من ذلك، والإجمال في قوله: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى يحتمل أن يكون رجاء أن يسأله سبحانه عن تلك المآرب فيسمع كلامه عز وجل مرة أخرى. وتطول المكالمة وتزداد اللذاذة التي لأجلها أطنب أولا، وما ألذ مكالمة المحبوب، ومن هنا قيل:

وأملى حديثا يستطاب فليتني ... أطلت ذنوبا كي يطول عتابه

ويحتمل أن يكون لعود غلبة الدهشة إليه عليه السّلام، وزعم بعضهم أنه تعالى سأله عليه السّلام ليقرره على أنها خشبة حتى إذا قلبها حية لا يخافها وليس بشيء، وعلى جميع هذه الأقوال السؤال واحد الجواب واحد كما هو الظاهر، وقيل: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها إلخ جواب لسؤال آخر وهو أنه لما قال: هِيَ عَصايَ قال له تعالى: فما تصنع بها؟

فقال: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها إلخ، وقيل: إنه تعالى سأله عن شيئين عن العصا بقوله سبحانه وَما تِلْكَ وعما يملكه منها بقوله عز وجل: بِيَمِينِكَ فأجاب عليه السّلام عن الأول بقوله: هِيَ عَصايَ وعن الثاني بقوله: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها إلخ، ولا يخفى أن كلا القولين لا ينبغي أن يتوكأ عليهما لا سيما الأخير.

هذا واستدل بالآية على استحباب التوكؤ على العصا وإن لم يكن الشخص بحيث تكون وترا لقوسه وعلى استحباب الاقتصاد في المرعى بالهش وهو ضرب الشجر ليسقط الورق دون الاستئصال ليخلف فينتفع به الغير.

وقد ذكر الإمام فيها فوائد سنذكر بعضها في باب الإشارة لأن ذلك أوفق به قالَ استئناف مبني على سؤال ينساق إليه الذهن كأنه قيل: فماذا قال الله عز وجل فقيل؟ قال: أَلْقِها يا مُوسى لترى من شأنها ما ترى، والإلقاء الطرح على الأرض، ومنه قوله:

فألقت عصاها واستقرت بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر

وتكرير النداء لمزيد التنبيه والاهتمام بشأن العصا، وكون قائل هذا هو الله تعالى هو الظاهر، وزعم بعضهم أنه يجوز أن يكون القائل الملك بأمر الله تعالى وقد أبعد غاية البعد فَأَلْقاها ريثما قيل له ألقها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى تمشي وتنتقل بسرعة، والحية اسم جنس يطلق على الصغير والكبير والأنثى والذكر، وقد انقلبت حين ألقاها عليه السّلام

<<  <  ج: ص:  >  >>