أن جعلناهم بمنزلة النبات المحصود والنار الخامدة في الهلاك قاله العلامة الثاني في شرح المفتاح (١) ثم قال في ذلك استعارتان بالكناية بلفظ واحد وهو ضمير جَعَلْناهُمْ حيث شبه بالنبات وبالنار وأفرد بالذكر وأريد به المشبه بهما أعني النبات والنار ادعاء بقرينة أنه نسب إليه الحصاد الذي هو من خواص النبات والخمود الذي هو خواص النار، ولا يجعل من باب التشبيه مثل هم صم بكم عمي لأن جمع خامِدِينَ جمع العقلاء ينافي التشبيه إذ ليس لنا قوم خامدون يعتبر تشبيه أهل القرية بهم إذ الخمود من خواص النار بخلاف الصمم مثلا فإنه يجعل بمنزلة هم كقوم صم وكذا يعتبر حَصِيداً بمعنى محصودين على استواء الجمع الواحد في فعيل بمعنى مفعول ليلائم خامِدِينَ نعم يجوز تشبيه هلاك القوم بقطع النبات وخمود النار فيكون استعارة تصريحية تبعية في الوصفين انتهى، وكذا في شرح المفتاح للسيد السند بيد أنه جوّز أن يجعل حَصِيداً فقط من باب التشبيه بناء على ما في الكشاف أي جعلناهم مثل الحصيد كما تقول جعلناهم رمادا أي مثل الرماد، وجعل غير واحد أفراد الحصيد لهذا التأويل فإن مثلا لكونه مصدرا في الأصل يطلق على الواحد وغيره وهو الخبر حقيقة في التشبيه البليغ ويلزم على ذلك صحة الرجال أسد وهو كما ترى، واعترض على قول الشارحين: إذ ليس لنا إلخ بأن فيه بحثا مع أن مدار ما ذكراه من كون خامِدُونَ لا يحتمل التشبيه جمعه جمع العقلاء المانع من أن يكون صفة للنار حتى لو قيل خامدة كان تشبيها، وقد صرح به الشريف في حواشيه لكنه محل تردد لأنه لما صح الحمل في التشبيه ادعاء فلم لا يصح جمعه لذلك ولولاه لما صحت الاستعارة أيضا وذهب العلامة الطيبي والفاضل اليمني إلى التشبيه في الموضعين ففي الآية أربعة احتمالات فتدبر جميع ذلك وخامِدُونَ مع حصيدا في حيز المفعول الثاني للجعل كجعلته حلوا حامضا، والمعنى جعلناهم جامعين للحصاد والخمود أو لمماثلة الحصيد والخامد أو لمماثلة الحصيد الخمود أو جعلناهم هالكين على أتم وجه فلا يراد أن الجعل نصب ثلاثة مفاعيل هنا وهو مما ينصب مفعولين أو حال من الضمير المنصوب في جَعَلْناهُمْ أو من المستكن في حَصِيداً أو هو صفة لحصيدا وهو متعدد معنى، واعترض بعضهم بأن كونه صفة له. مع كونه تشبيها أريد به ما لا يعقل يأباه كونه للعقلاء.
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أي ما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلائق مشحونة بضروب البدائع والعجائب كما تسوي الجبابرة سقوفهم فرشهم وسائر زخارفهم للهو واللعب وإنما سويناها للفوائد الدينية والحكم الربانية كأن تكون سببا للاعتبار ودليلا للمعرفة مع منافع لا تحصى وحكم لا تستقصى، وحاصله ما خلقنا ذلك خاليا عن الحكم والمصالح إلا أنه عبر عن ذلك باللعب وهو كما قال الراغب الفعل الذي لا يقصد به مقصد صحيح لبيان كمال تنزهه تعالى عن الخلق الخالي عن الحكمة بتصويره بصورة ما لا يرتاب أحد في استحالة صدوره عنه سبحانه، وهذا الكلام على ما قيل إشارة إجمالية إلى أن تكوين العالم وإبداع بني آدم مؤسس على قواعد الحكمة البالغة المستتبعة للغايات الجليلة وتنبيه على أن ما حكي من العذاب النازل بأهل القرى من مقتضيات تلك الحكم ومتفرعاتها حسب اقتضاء أعمالهم إياه مع التخلص إلى وعيد المخاطبين، وفي الكشف أن الآيات لإثبات أمر النبوة ونفي تلك المطاعن السابقة على ما ذكره الإمام وهو الحق لأنه قد تكرر في الكتاب العزيز أن الحكمة في خلق السماء والأرض وما بينهما العبادة والمعرفة وجزاء من قام بهما ومن لم يقم ولن يتم ذلك إلا بإنزال الكتاب وإرسال الرسل عليهم السلام، فمنكر الرسالة جاعل خلق السماء والأرض لعبا تعالى خالقهما