هذا ووقع في كلام الفلاسفة أن أفعال الله تعالى غير معللة بالأغراض والغايات ومرادهم على ما قاله بعضهم ففي التعليل عن فعله سبحانه بما هو غير ذاته لأنه جل شأنه تام الفاعلية لا يتوقف فيها على غيره ولا يلزم من ذلك نفي الغاية والغرض عن فعله تعالى مطلقا ولذا صح أن يقولوا علمه تعالى بنظام الخير الذي هو عين ذاته تعالى علة غائية وغرض في الإيجاد ومرادهم بالاقتضاء في قولهم في تعريف العلة الغائية ما يقتضي فاعلية الفاعل مطلق عدم الانفكاك لكنهم تسامحوا في ذلك اعتمادا على فهم المتدرب في العلوم وصرحوا بأنه تعالى ليس له غرض في الممكنات وقصد إلى منافعها لأن كل فاعل يفعل لغرض غير ذاته فهو فقير إلى ذلك الغرض مستكمل به والمكمل يجب أن يكون أشرف فغرض الفاعل يجب أن يكون ما هو فوقه وإن كان بحسب الظن وليس له غرض فيما دونه وحصول وجود الممكنات منه تعالى على غاية من الإتقان ونهاية من الأحكام ليس إلا لأن ذاته تعالى ذات لا تحصل منه الأشياء إلا على أتم ما ينبغي وأبلغ ما يمكن من المصالح فالواجب سبحانه عندهم يلزم من تعقله لذاته الذي هو مبدأ كل خير وكمال حصول الممكنات على الوجه الأتم والنظام الأقوم واللوازم غايات عرضية إن أريد بالغاية ما يقتضي فاعلية الفاعل وذاتية إن أريد بها ما يترتب على الفعل ترتبا ذاتيا لا عرضيا كوجود مبادئ الشر وغيرها في الطبائع الهيولانية ثم كما أنه تعالى غاية بالمعنى الذي أشير إليه فهو غاية بمعنى أن جميع الأشياء
طالبة له متشوقة إليه طبعا وإرادة لأنه الخير المحض والمعشوق الحقيقي جل جلاله وعم نواله.
والحكماء المتألهون قد حكموا بسريان نور العشق في جميع الموجودات على تفاوت طبقاتها ولولا ذلك ما دار الفلك ولا استنار الحلك فسبحانه من إله قاهر وهو الأول والآخر، وتمام الكلام في هذا المقام على مشرب المتكلمين والفلاسفة يطلب من محله. وقرأ الحسن «لا يسل» و «يسلون» بنقل فتحة الهمزة إلى السين وحذفها وقوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إضراب وانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهة حقيقية بإظهار خلوها عن خصائص الإلهية التي من جملتها الإنشار وإقامة البرهان القطعي على استحالة تعدد الإله مطلقا وتفرده سبحانه بالألوهية إلى بطلان اتخاذهم تلك الآلهة مع عرائها عن تلك الخصائص بالمرة شركاء لله تعالى شأنه وتبكيتهم بإلجائهم إقامة البرهان على دعواهم الباطلة وتحقيق أن جميع الكتب السماوية ناطقة بحقية التوحيد وبطلان الإشراك. وجوز أن يكون هذا انتقالا لإظهار بطلان الآلهة مطلقا بعد إظهار بطلان الآلهة الأرضية، والهمزة لإنكار الاتخاذ المذكور واستقباحه واستعظامه ومن متعلقة باتخذوا، والمعنى بل اتخذوا متجاوزين إياه تعالى مع ظهور شؤونه الجليلة الموجبة لتفرده بالألوهية آلهة مع ظهور أنها عارية عن خواص الألوهية بالكلية.
قُلْ لهم بطريق التبكيت وإلقام الحجر هاتُوا بُرْهانَكُمْ على ما تدعونه من جهة العقل الصريح أو النقل الصحيح فإنه لا يصح القول بمثل ذلك من غير دليل عليه، وما في إضافة البرهان إلى ضميرهم من الإشعار بأن لهم برهانا ضرب من التهكم بهم، وقوله تعالى: هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي إنارة لبرهانه وإشارة إلى أنه مما نطقت به الكتب الإلهية قاطبة وزيادة تهييج لهم على إقامة البرهان لإظهار كمال عجزهم أي هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع ذكر أمتي وعظتهم وذكر الأمم السالفة قد أقمته فأقيموا أنتم أيضا برهانكم، وأعيد لفظ ذِكْرُ ولم يكتف بعطف الموصول على الموصول المستدعي للانسحاب لأن كون المشخص ذكر من معه وكونه ذكر من قبله باعتبار اتحاده بالحقيقة مع الوحي المتضمن ذلك.
وقيل: المراد بالذكر الكتاب أي هذا كتاب أنزل على أمتي وهذا كتاب أنزل على أمم الأنبياء عليهم السلام من الكتب الثلاثة والصحف فراجعوها وانظروا هل في واحد منها غير الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك ففيه تبكيت لهم