للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم ليس خلق الجبال لهذه الحكمة فقط بل لحكم لا تحصى ومنافع لا تستقصى فلا يقال إنه يغني عن الجبال خلقها بحيث لا يظهر للأجسام الثقيلة المتحركة عليها أثر بالنسبة إلى ثقلها، وثانيا أنها بحسب طبعها تقتضي أن تكون مغمورة بالماء بحيث تكون الخطوط الخارجة من مركزها المنطبق على مركز العالم إلى محدب الماء متساوية من جميع الجوانب فبروز هذا المقدار المعمور منها قسري، ويجوز أن يكون للجبال مدخل في القسر باحتباس الأبخرة فيها وصيرورة الأرض بسبب ذلك كزق في الماء نفخ نفخا ظهر به شيء منه على وجه الماء ولولا ذلك لم يكن القسر قويا بحيث لا يعارضه ما يكون فوق الأرض من الحيوانات وغيرها وذلك يوجب الميد الذي قد يفضي بها إلى الانغمار فتأمل، وقد مر لك ما يتعلق بهذا المطلب فتذكر وَجَعَلْنا فِيها أي في الأرض، وتكرير الفعل لاختلاف المجعولين مع ما فيه من الإشارة إلى كمال الامتنان أو في الرواسي على ما أخرجه ابن جرير والمنذر عن ابن عباس ويؤيده أنها المحتاجة لأن يجعل سبحانه فيها فِجاجاً جمع فج قال الراغب: هو شقة يكتنفها جبلان، وقال الزجاج:

كل مخترق بين جبلين فهو فج، وقال بعضهم: هو مطلق الواسع سواء كان طريقا بين جبلين أم لا ولذا يقال جرح فج، والظاهر أن «فجاجا» نصب على المفعولية لجعل، وقوله سبحانه: سُبُلًا بدل منه فيدل ضمنا على أنه تعالى خلقها ووسعها للسابلة مع ما فيه من التأكيد لأن البدل كالتكرار وعلى نية تكرار العامل والمبدل منه ليس في حكم السقوط مطلقا وقال في الكشاف: هو حال من سُبُلًا ولو تأخر لكان صفة كما في قوله تعالى في سورة [نوح: ٢٠] لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً وإنما لم يؤت به كذلك بل قدم فصار حالا ليدل على أنه في حال جعلها سبلا كانت واسعة ولو أتى به صفة لم يدل على ذلك. وأوجب بعضهم كونه مفعولا وكون سُبُلًا بدلا منه وكذا أوجب في قوله تعالى: لِتَسْلُكُوا إلخ كون سُبُلًا مفعولا وكون فِجاجاً بدلا قائلا: إن الفج اسم لا صفة لدلالته على ذات معينة وهو الطريق الواسع والاسم يوصف ولا يوصف به ولذا وقع موصوفا في قوله تعالى: مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: ٢٧] والحمل على تجريده عن دلالته على ذات معينة لا قرينة عليه.

وتعقب بأنا لا نسلم أن معناه ذلك بل معناه مطلق الواسع وتخصيصه بالطريق عارض وهو لا يمنع الوصفية ولو سلم فمراد من قال إنه وصف أنه في معنى الوصف بالنسبة إلى السبيل لأن السبيل الطريق وهو الطريق الواسع فإذا قدم عليه يكون ذكره بعد لغوا لو لم يكن حالا، وظاهر كلام الفاضل اليمني في المطلع أن سُبُلًا عطف بيان وهو سائغ في النكرات حيث قال: هو تفسير للفجاج وبيان أن تلك الفجاج نافذة فقد يكون الفج غير نافذ وقدم هنا وأخر في آية سورة نوح لأن تلك الآية واردة للامتنان على سبيل الإجمال وهذه للاعتبار والحث على إمعان النظر وذلك يقتضي التفصيل، ومن ثم ذكرت عقب قوله تعالى كانتا رَتْقاً إلخ انتهى، وأنت تعلم أن الأظهر نصب فِجاجاً هنا على المفعولية لجعل ووجه التغاير بين الآيتين لا يخفى فتأمل لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ إلى الاستدلال على التوحيد وكمال القدرة والحكمة، وقيل: إلى مصالحهم ومهماتهم. ورد على ما تقدم بأنه يغني عن ذلك قوله تعالى فيما بعد وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ وبأن خلق السبل لا تظهر دلالته على ما ذكر انتهى، وفيه ما فيه، وجوّز أن يكون المراد ما هو أعم من الاهتداء إلى الاستدلال والاهتداء إلى المصالح:

وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً من البلى والتغير على طول الدهر كما روي عن قتادة، والمراد أنها جعلت محفوظة عن ذلك الدهر الطويل، ولا ينافيه أنها تطوى يوم القيامة طي السجل للكتب وإلى تغيرها ودثورها ذهب جميع المسلمين ومعظم أجلة الفلاسفة كما برهن عليه صدر الدين الشيرازي في أسفاره وسنذكره إن شاء الله تعالى في محله.

<<  <  ج: ص:  >  >>