بكونها معظم المخلوقات وللتنصيص على اتصافهم بضد ما اتصف به المستعجلون، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على أن حالتهم فيما يتعلق بالآخرة الإشفاق الدائم وَهذا أي القرآن الكريم أشير إليه بهذا للإيذان بسهولة تناوله ووضوح أمره، وقيل: لقرب زمانه ذِكْرٌ يتذكر به من تذكر وصف بالوصف الأخير للتوراة لمناسبة المقام وموافقته لما مر في صدر السورة الكريمة مع انطواء جميع ما تقدم في وصفه بقوله سبحانه: مُبارَكٌ أي كثير الخير غزير النفع ولقد عاد علينا والله تعالى الحمد من بركته ما عاد.
وقوله تعالى: أَنْزَلْناهُ إما صفة ثانية لذكر أو خبر آخر لهذا، وفيه على التقديرين من تعظيم أمر القرآن الكريم ما فيه أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ إنكار لإنكارهم بعد ظهور كونه كالتوراة كأنه قيل أبعد أن علمتم أن شأنه كشأن التوراة أنتم منكرون لكونه منزلا من عندنا فإن ذلك بعد ملاحظة حال التوراة مما لا مساغ له أصلا وتقديم الجار والمجرور لرعاية الفواصل أو للحصر لأنهم معترفون بغيره مما في أيدي أهل الكتاب.
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ أي الرشد اللائق به وبأمثاله من الرسل الكبار وهو الرشد الكامل أعني الاهتداء إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا والإرشاد بالنواميس الإلهية وقيل: الصحف، وقيل: الحكمة، وقيل: التوفيق للخير صغيرا، واختار بعضهم التعميم.
وقرأ عيسى الثقفي «رشده» بفتح الراء والشين وهما لغة كالحزن والحزن مِنْ قَبْلُ أي من قبل موسى وهارون، وقيل من قبل البلوغ حين خرج من السرب، وقيل من قبل أن يولد حين كان في صلب آدم عليه السلام، وقيل من قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم والأول مروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قال في الكشف: وهو الوجه الأوفق لفظا ومعنى، أما الأول فللقرب، وأما الثاني فلأن ذكر الأنبياء عليهم السلام للتأسي، وكان القياس أن يذكر نوح ثم إبراهيم ثم موسى عليهم السلام لكن روعي في ذلك ترشيح التسلي والتأسي فقد ذكر موسى عليه السلام لأن حاله وما قاساه من قومه وكثرة آياته وتكاثف أمته أشبه بحال نبينا عليه الصلاة والسلام ثم ثنى بذكر إبراهيم عليه السلام، وقيل مِنْ قَبْلُ لهذا ألا ترى إلى قوله تعالى وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ [الأنبياء: ٧٦] أي من قبل هؤلاء المذكورين، وقيل من قبل إبراهيم ولوط اهـ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أي بأحواله وما فيه من الكمالات، وهذا كقولك في خير من الناس:
أنا عالم بفلان فإنه من الاحتواء على محاسن الأوصاف بمنزل.
وجوز أن يكون هذا كناية عن حفظه تعالى إياه وعدم إضاعته، وقد قال عليه السلام يوم إلقائه في النار وقول جبريل عليه السلام له سل ربك: علمه بحالي يغني عن سؤالي وهو خلاف الظاهر إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ظرف لآتينا على أنه وقت متسع وقع فيه الإيتاء وما يترتب عليه من أقواله وأفعاله، وجوّز أن يكون ظرفا لرشد أو لعالمين، وأن يكون بدلا من موضع مِنْ قَبْلُ وأن ينتصب بإضمار أعني أو أذكر، وبدأ بذكر الأب لأنه كان الأهم عنده عليه السلام وفي النصيحة والإنقاذ من الضلال.
والظاهر أنه عليه السلام قال له ولقومه مجتمعين: ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ أراد عليه السلام ما هذه الأصنام إلا أنه عبر عنها بالتماثيل تحقيرا لشأنها فإن التمثال الصورة المصنوعة مشبّهة بمخلوق من مخلوقات الله تعالى من مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به. وكانت على ما قيل صور الرجال يعتقدون فيهم وقد انقرضوا، وقيل كانت صور الكواكب صنعوها حسبما تخيلوا، وفي الإشارة إليها بما يشار به للقريب إشارة إلى التحقير أيضا، والسؤال عنها بما التي يطلب بها بيان الحقيقة أو شرح الاسم من باب تجاهل العارف كأنه لا يعرف أنها ماذا وإلا فهو عليه السلام محيط بأن حقيقتها حجر أو نحوه، والعكوف الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم له، وقيل اللزوم