على أن أم لا يجوز أن تكون متصلة قطعا وكذا بل فيما بعد انتهى والحق أن جواز الانقطاع مما لا ريب فيه، وأما وجوبه ففيه ما فيه.
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ أي أنشأهن بما فيهن من المخلوقات التي من جملتها أنتم وآباؤكم وما تعبدون من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه. وهذا انتقال عن تضليلهم في عبادة الأصنام ونفي عدم استحقاقها لذلك إلى بيان الحق وتعيين المستحق للعبادة، وضمير فَطَرَهُنَّ أما للسموات والأرض واستظهره أبو حيان، ووصفه تعالى بإيجادهن أثر وصفه سبحانه بربوبيته لهن تحقيقا للحق تنبيها على أن ما لا يكون كذلك بمعزل عن الربوبية التي هي منشأ استحقاق العبادة. وإما للتماثيل ورجح بأنه أدخل في تحقيق الحق وإرشاد المخاطبين إليه، وليس هذا الضمير من الضمائر التي تخص من يعقل من المؤنثات كما ظنه ابن عطية فتكلف لتوجيه عوده لما لا يعقل، وقوله تعالى: وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ تذييل متضمن لرد نسبتهم إياه عليه السلام إلى اللعب والهزل، والإشارة إلى المذكور، والجار الأول متعلق بمحذوف أي وأنا شاهد على ذلكم من الشاهدين أو على جهة البيان أي أعني على ذلكم أو متعلق بالوصف بعده، وإن كان في صلة أل لاتساعهم في المظروف أقوال مشهورة، والمعنى وأنا على ذلكم الذي ذكرته من العالمين به على سبيل الحقيقة المبرهنين عليه ولست من اللاعبين، فإن الشاهد على الشيء من تحققه وحققه وشهادته على ذلك إدلاؤه بالحجة عليها وإثباته بها.
وقال شيخ الإسلام: إن قوله: بَلْ رَبُّكُمْ إلخ إضراب عما بنوا عليه مقالهم من اعتقاد كون تلك التماثيل أربابا لهم كأنه قيل ليس الأمر كذلك بل ربكم إلخ وقال القاضي: هو إضراب عن كونه عليه السلام لاعبا بإقامة البرهان على ما ادعاه، وجعله الطيبي إضرابا عن ذلك أيضا قال: وهذا الجواب وارد على الأسلوب الحكيم، وكان من الظاهر أن يجيبهم عليه السلام بقوله بل أنا من المحقين ولست من اللاعبين فجاء بقوله: بَلْ رَبُّكُمْ الآية لينبه به على أن إبطالي لما أنتم عاكفون عليه وتضليلي إياكم مما لا حاجة فيه لوضوحه إلى الدليل ولكن انظروا إلى هذه العظيمة وهي أنكم تتركون عبادة خالقكم ومالك أمركم ورازقكم ومالك العالمين والذي فطر ما أنتم لها عاكفون وتشتغلون بعبادتها دونه فأي باطل أظهر من ذلك وأي ضلال أبين منه.
وقوله: وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ تذييل للجواب بما هو مقابل لقولهم: أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ من حيث الأسلوب وهو الكناية ومن حيث التركيب وهو بناء الخبر على الضمير كأنه قال: لست من اللاعبين في الدعاوى بل من العالمين فيها بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة كالشاهد الذي نقطع به الدعاوى اهـ، ولا يخفى أنه يمكن إجراء هذا على احتمال كون أم متصلة فافهم وتأمل ليظهر لك أي التوجيهات لهذا الاضراب أولى وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ أي لأجتهدن في كسرها، وأصل الكيد الاحتيال في إيجاد ما يضر مع إظهار خلافه وهو يستلزم الاجتهاد فتجوز به عنه، وفيه إيذان بصعوبة لانتهاز وتوقفه على استعمال الحيل ليحتاطوا في الحفظ فيكون الظفر بالمطلوب أتم في التبكيت، وكان هذا منه عليه السلام عزما على الإرشاد إلى ضلالهم بنوع آخر، ولا يأباه ما روي عن قتادة أنه قال:
نرى أنه عليه السلام قال ذلك من حيث لا يسمعون وقيل سمعه رجل واحد منهم، وقيل قوم من ضعفتهم ممن كان يسير في آخر الناس يوم خرجوا إلى العيد وكانت الأصنام سبعين: وقيل اثنين وسبعين.
وقرأ معاذ بن جبل وأحمد بن حنبل «بالله» بالباء ثانية الحروف وهي أصل حروف القسم إذ تدخل على الظاهر والمضمر ويصرح بفعل القسم معها ويحذف والتاء بدل من الواو كما في تجاه والواو قائمة مقام الباء للمناسبة بينهما من حيث كونهما شفويتين ومن حيث إن الواو تفيد معنى قريبا من معنى الإلصاق على ما ذكره كثير من النحاة.