لأنه فعل داثر غير ثابت ولا باق لأنه كان بحركة والحركة لا تأتي بالشيء الثابت الباقي بل إنما تأتي بالشيء الداثر وإلا لكان فعلها أكرم منها وهو قبيح جدا، وسأله بعض الدهرية إذا كان المبدع لم يزل ولا شيء غيره ثم أحدث العالم فلم أحدثه؟ فقال: لم غير جائزة عليه لأن لم تقتضي علة والعلة محمولة فيما هي علة عليه من معل فوقه وليس بمركب يتحمل ذاته العلل فلم عنه منفية فإنما فعل ما فعل لأنه جواد فقيل يجب أن يكون فاعلا لم يزل لأنه جواد لم يزل فقال:
معنى لم يزل لا أول له وفعل فاعل يقتضي أولا واجتماع يكون ما لا أول له وذا أول في القول والذات محض متناقض، فقيل: فهل يبطل هذا العالم؟ قال: نعم فقيل: فإذا أبطله بطل الجود فقال: يبطل ليصوغه الصيغة التي لا تحتمل الفساد لأن هذه الصيغة تحتمل الفساد، ومنهم فرفوريوس واضع ايساغوجي قال المكونات كلها إنما تتكون بتكون الصورة على سبيل التغير وتفسد بخلو الصورة إلى غير ذلك من الفلاسفة وأقوالهم.
وذكر جميع ذلك مما يفضي إلى الملل، ومن أراده فليرجع إلى الاسفار وغيره من كتب الصدر، والحق أنه قد وقع في كلام متقدمي الفلاسفة كثيرا مما هو ظاهر في مخالفة مدلول الآية الكريمة ولا يكاد يحتمل التأويل وهو مقتضى أصولهم وما يتراءى منه الموافقة فإنما يتراءى منه الموافقة في الجملة والتزام التوفيق بين ما يقوله المسلمون في أمر العالم بأسره وما يقوله الفلاسفة في ذلك كالتزام التوفيق بين الضب والنون بل كالتزام الجمع بين الحركة والسكون.
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا ما استقل يماني
فعليك بما نطق به الكتاب المبين أو صح عن الصادق الأمين صلّى الله عليه وسلّم، وما عليك إذا خالفت الفلاسفة فأغلب ما جاؤوا به جهل وسفه ولعمري لقد ضل بكلامهم كثير من الناس وباض وفرخ في صدورهم الوسواس الخناس، وهو جعجعة بلا طحن وقعقعة كقعقعة شن ولولا الضرورة التي لا أبديها والعلة التي عز مداويها لما أضعت في درسه وتدريسه شرخ شبابي ولما ذكرت شيئا منه خلال سطور كتابي، هذا وأنا أسأل الله تعالى التوفيق للتمسك بحبل الحق الوثيق، ثم إن الظاهر من الأخبار الصحيحة أن العرش لا يطوى كما تطوى السماء فإن كان هو المحدد كما يزعمه الفلاسفة ومن تبع آثارهم فعدم دثوره بخصوصه مما صرح به من الفلاسفة الإسكندر الافروديسي من كبار اصحاب أرسطاطاليس وإن خالفه في بعض المسائل ومن حمل كلامه على خلاف ذلك فقد تعسف وأتى بما لا يسلم له، وظاهر الآية الكريمة أيضا مشعر بعدم طيه للاقتصار فيها على طي السماء. والشائع عدم إطلاقها على العرش، ثم إن الطي لا يختص بسماء دون سماء بل تطوى جميعها لقوله تعالى: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: ٦٧] .
كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ الظاهر أن الكاف جارة وما مصدرية والمصدر مجرور بها والجار والمجرور صفة مصدر مقدر وأَوَّلَ مفعول بدأنا أي نعيد أول خلق إعادة مثله بدئنا إياه أي في السهولة وعدم التعذر وقيل: أي في كونها إيجادا بعد العدم أو جمعا من الأجزاء المتفرقة، ولا يخفى أن في كون الإعادة إيجادا بعد العدم مطلقا بحثا، نعم قال اللقاني: مذهب الأكثرين أن الله سبحانه يعدم الذوات بالكلية ثم يعيدها وهو قول أهل السنة والمعتزلة القائلين بصحة الفناء على الأجسام بل وقوعه.
وقال البدر الزركشي والآمدي: إنه الصحيح. والقول بأن الإعادة عن تفريق محض قول الأقل وحكاه جمع بصيغة التمريض لكن في المواقف وشرحه هل يعدم الله تعالى الأجزاء البدنية ثم يعيدها أو يفرقها ويعيد فيها التآلف؟
الحق أنه لم يثبت في ذلك شيء بلا جزم فيه نفيا ولا إثباتا لعدم الدليل على شيء من الطرفين.