أخليناه عن ساكنيه كما يشعر به السياق ووصف البئر بمعطلة قيل، وهذا يؤيد وكون معنى خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها خالية مع بقاء عروشها، وفي البحر ينبغي أن يكون بِئْرٍ. وقَصْرٍ من حيث عطفها على قَرْيَةٍ داخلين معها في حيز الإهلاك مخبرا به عنهما بضرب من التجوز أي وكم بئر معطلة وقصر مشيد أهلكنا أهلهما.
وزعم بعضهم عطفهما على عُرُوشِها وليس بشيء، وظاهر التنكير فيهما عدم إرادة معين منهما، وعن ابن عباس أن البئر كانت لأهل عدن من اليمن وهي الرس، وعن كعب الأحبار أن القصر بناه عاد الثاني.
وعن الضحاك وغيره أن القصر على قلة جبل بحضرموت والبئر بسفحه وأن صالحا عليه السلام نزل عليها مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله تعالى من العذاب، وسميت حضرموت بفتح الراء والميم ويضمان ويبنى ويضاف لأن صالحا عليه السلام (١) حين حضرها مات، وعند البئر بلدة اسمها حاضورا بناها قوم صالح وأمّروا عليها جلهس بن جلاس وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما وأرسل الله تعالى إليهم حنظلة بن صفوان نبيا فقتلوه في السوق فأهلكهم الله تعالى عن آخرهم وعطل سبحانه بئرهم وقصرهم.
وجوز أن يكون إرادة ذلك بطريق التعريض وفيه بعد أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ حيث لهم على السفر للنظر والاعتبار بمصارع الهالكين هذا إن كانوا لم يسافروا وإن كانوا سافروا فهو حث على النظر والاعتبار، وذكر المسير لتوقفه عليه، وجوز أن يكون الاستفهام للإنكار أو التقرير، وأيا ما كان فالعطف على مقدر يقتضيه المقام، وقوله تعالى:
فَتَكُونَ لَهُمْ منصوب في جواب الاستفهام عند ابن عطية. وفي جواب التقرير عند الحوفي وفي جواب النفي عند بعض، ومذهب البصريين أن النصب بإضمار أن وينسبك منها ومن الفعل مصدر يعطف على مصدر متوهم. ومذهب الكوفيين أنه منصوب على الصرف إذ معنى الكلام الخبر صرفوه عن الجزم على العطف على يَسِيرُوا وردوه إلى أخي الجزم وهو النصب وهو كما ترى. ومذهب الجرمي أن النصب بالفاء نفسها.
وقرأ مبشر بن عبيد «فيكون» بالياء التحتية قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أي يعلمون بها ما يجب أن يعلم من التوحيد فمفعول يَعْقِلُونَ محذوف لدلالة المقام عليه، وكذا يقال في قوله تعالى: أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها أي يسمعون بها ما يجب أن يسمع من الوحي أو من أخبار الأمم المهلكة ممن يجاورهم من الناس فإنهم أعرف منهم بحالهم فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ
ضمير فَإِنَّها للقصة فهو مفسر بالجملة بعده، ويجوز في مثله التذكير باعتبار الشأن، وعلى ذلك قراءة عبد الله «فإنه» وحسن التأنيث هنا وقوع ما فيه تأنيث بعده، وقيل: يجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا بالأبصار، وكأن الأصل فإنها الأبصار لا تعمى على أن جملة لا تَعْمَى من الفعل والفاعل المستتر خبر بعد خبر فلما ترك الخبر الأول أقيم الظاهر مقام الضمير لعدم ما يرجع إليه ظاهرا فصار فاعلا مفسرا للضمير. واعترضه أبو حيان بأنه لا يجوز لأن الضمير المفسر بمفرد بعده محصور في أمور وهي باب رب وباب نعم وبئس وباب الأعمال وباب البدل وباب المبتدأ والخبر وما هنا ليس منها. ورد بأنه من باب المبتدأ والخبر نحو إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الأنعام: ٢٩، المؤمنون: ٣٧، الجاثية: ٢٤] ولا يضره دخول الناسخ، وفيه نظر، والمعنى أنه لا يعتد بعمى الأبصار وإنما يعتد بعمى القلوب فكأن عمى الأبصار ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب، فالكلام تذييل لتهويل ما بهم من عدم فقه القلب وأنه العمى الذي لا عمى بعده بل لا عمى إلا هو أو المعنى أن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها وإنما العمى بقلوبهم فكأنه قيل: أفلم يسيروا فتكون لهم قلوب ذات بصائر فإن الآفة ببصائر
(١) فالظاهر أن قبره عليه السلام هناك، وقيل: هو بعكا وعليه الإمام أبو القاسم الأنصاري والله تعالى أعلم اهـ منه.