بعضهم لبعض ظهيرا بمقدار أقصر سورة منه تشبهه في البلاغة ومتى أتى أحد بما يزعم فيه ذلك لم تنفق سوقه عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكذا عند كل بليغ محيط بما تقدم ولم يخف على الرسول عليه الصلاة والسلام ولا على ذلك البليغ عدم إعجازه فلا يشتبه عنده بالقرآن أصلا، ولا شك أن ما ألقى الشيطان على ما في بعض الروايات حروفه بقدر حروف سورة الكوثر بل أزيد أن اعتبر الحرف المشدد بحرفين وهو وأنهن لهن الغرانيق العلاوان شفاعتهن لهي التي ترتجى الوارد فيما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب.
وجاء في رواية ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم بسند قال السيوطي: هو صحيح عن أبي العالية أنه ألقى تلك الغرانيق العلا وشفاعتهن ترتجى ترتضى ومثلهن لا ينسى وحروفه أزيد من حروفها إذا لم يعتبر الحرف المشدد في شيء منهما حرفين أما إذا اعتبر فحروفها أزيد بواحد فإن كان ما ذكر مما يتعلق به الإعجاز فإن كان معجزا لزم أن يكون من الله تعالى لا من إلقاء عدوه ضرورة عجزه كسائر الجن والإنس عن الإتيان بذلك، وإن لم يكن مما يتعلق به الإعجاز فهو كلام غير يسير يتنبه البليغ الحاذق إذ سمعه أثناء كلام فوقه بمراتب لكونه ليس منه فيبعد كل البعد أن يخفى عليه عليه الصلاة والسلام قصور بلاغته عن بلاغة شيء من آيات القرآن سواء قلنا بتفاوتها في البلاغة كما اختاره أبو نصر القشيري وجماعة أم قلنا بعدم التفاوت كما اختاره القاضي فيعتقد أنه قرآن حتى ينبهه جبريل عليه السلام لا سيما وقد تكرر على سمعه الشريف سكر الآيات ومازجت لحمه ودمه، والواحد منا وإن لم يكن من البلاغة بمكان إذا ألف شعر شاعر وتكرر على سمعه يعلم إذا دس بيت أو شطر في قصيدة له إن ذلك ليس له وقد يطالب بالدليل فلا يزيد على قوله: لأن النفس مختلف، وهذا البعد متحقق عندي على تقدير كون الملقى ما في الرواية الشائعة وهو تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى أيضا لا سيما على قول جماعة: إن الإعجاز يتعلق بقليل القرآن وكثيره من الجمل المفيدة لقوله تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ والقول بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم خفي عليه ذلك للتأديب فيه ما فيه، ولا يبعد استحقاق قائله للتأنيب.
وما ذكره في الجواب عن الثالث من أنه لا بد من حمل الكلام على الاستفهام أو حذف القول وهو دون الأول إذا صح الخبر صحيح لكن إثبات صحة الخبر أشد من خرط القتاد فإن الطاعنين فيه من حيث النقل علماء أجلّاء عارفون بالغث والسمين من الأخبار وقد بذلوا الوسع في تحقيق الحق فيه فلم يرووه إلا مردودا وما ألقى الشيطان إلى أوليائه معدودا وهم أكثر ممن قال بقبوله ومنهم من هو أعلم منه، ويغلب على الظن أنهم وقفوا على رواته في سائر الطرق فرأوهم مجروحين وفات ذلك القائل بالقبول، ولعمري إن القول بأن هذا الخبر مما ألقاه الشيطان على بعض ألسنة الرواة ثم وفق الله تعالى جمعا من خاصته لإبطاله أهون من القول بأن حديث الغرانيق مما ألقاه الشيطان على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم نسخه سبحانه وتعالى لا سيما وهو مما لم يتوقف على صحته أمر ديني ولا معنى آية ولا ولا سوى أنها يتوقف عليها حصول شبه في قلوب كثير من ضعفاء المؤمنين لا تكاد تدفع إلا بجهد جهيد، ويؤيد عدم الثبوت مخالفته لظواهر الآيات فقد قال سبحانه في وصف القرآن: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: ٤٢] والمراد بالباطل كان باطلا في نفسه وذلك الملقى كذلك وإن سوغ نطق النبي صلّى الله عليه وسلّم به تأويله بأحد التأويلين، والمراد بلا يأتيه استمرار النفي لا نفي الاستمرار.
وقال عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: ٩] فجيء بالجملة الاسمية مؤكدة بتأكيدين ونسب فيها الحفظ المحذوف متعلقة إفادة للعموم إلى ضمير العظمة وفي ذلك من الدلالة على الاعتناء بأمر القرآن ما فيه.