وقوعه مما لم يقم عليه دليل، وقصارى ما تفيده الآية أن الإلقاء المشروط بالتمني أو في وقته بناء على الخلاف في أن «إذا» للشرط أو لمجرد الظرفية وعند انتفاء ذلك الشرط أو عدم تحقق ذلك الوقت يبقى الإلقاء على العدم الأصلي إن لم يكن هناك ما يقوم مقام ذلك الشرط أو ذلك الوقت.
ولا شك أن صدور خلاف الأكمل لا سيما إذا كان كالتمني أو فوقه أو وقت صدوره مما يقوم مقام ذلك فيما يقتضيه فيلزم حينئذ أن يكون صلّى الله عليه وسلّم في كل وحي متوقفا غير جازم بأنه وحي لا تلبيس إلى أن يتضح له عليه الصلاة والسلام عدم صدور خلاف الأكمل بالنسبة إليه منه وفي ذلك من البشاعة ما فيه.
واعترض على قوله في الجواب أيضا: إن ما قاله ابن العربي قياس مع الفارق إلخ بأنه غير حاسم للقيل والقال إذ لنا أن نقول: خلاصة ما أشار إليه ابن العربي أنه قد صح بل تواتر
قوله صلّى الله عليه وسلّم:«من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل بي»
والظاهر أنه لا يتمثل به صلّى الله عليه وسلّم أصلا لا للمخلصين ولا لغيرهم لعموم. من. ولزوم مطابقة التعليل المعلل وإذا لم يتمثل مناما فلأن لا يتمثل يقظة من باب أولي، وعلله الشراح بلزوم اشتباه الحق بالباطل.
وقالت الصوفية في ذلك: إن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وإن ظهر بجميع أسماء الحق تعالى وصفاته تخلقا وتحققا فمقتضى رسالته للخلق أن يكون الأظهر فيه حكما وسلطنة من صفات الحمق سبحانه وأسمائه جل شأنه الهداية والاسم الهادي والشيطان مظهر الاسم المضل والظاهر بصفة الضلالة فهما ضدان فلا يظهر أحدهما بصفة الآخر، والنبي صلّى الله عليه وسلّم خلق للهداية فلو ساغ ظهور إبليس بصورته لزال الاعتماد عليه عليه الصلاة والسلام فلذلك عصمت صورته صلّى الله عليه وسلّم عن أن يظهر بها شيطان اهـ، ولا شك أن نسبة جبريل عليه السلام إليه صلّى الله عليه وسلّم وكذا إلى سائر إخوانه الأنبياء عليهم السلام نسبة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الأمة فإذا استحال تمثل الشيطان بالنبي يقظة أو مناما لأحد من أمته مخلصا أو غير مخلص خوف الاشتباه وزوال الاعتماد وكمال التضاد فليقل باستحالة تمثله بجبريل عليه السلام لذلك ومن ادعى الفرق فقد كابر.
وتعقب ما ذكره في الجواب السادس بأن كون المتتبع لما يعتقده وحيا للتلبيس غير منقول صحيح إلا أن القول باعتقاده ما ليس قرآنا للتلبيس الناشئ عن إرادة التأديب بسبب تمني إيمان الجميع الغير المراد له تعالى ليس به، وكون التلبيس للتأديب كالسهو في الصلاة للتشريع لا يخفى ما فيه.
وأورد على قوله في الجواب السابع: إنه لا إخلال بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا لأن وثوق كل منهما تابع لوثوق متبوعهم الصادق الأمين صلّى الله عليه وسلّم أنه إذا فتح باب التلبيس لا يوثق بالوثوق في شيء أصلا لجواز أن يكون كل وثوق ناشئا عن تلبيس كالوثوق بأن تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى قرآن فلما تطرق الاحتمال الوثوق جاز أن يتطرق الرجوع ولا يظهر فرق بينهما فلا يعول حينئذ على جزم ولا على رجوع. وقوله فيما ذكره البيضاوي عليه الرحمة: ليس بشيء ليس بشيء لأن منع الاحتمال عند الفرق الأربع بعد القول بجواز التلبيس مكابرة والآية التي ادعى دلالتها على انتقاء الاحتمال عند فريقين بعد النسخ والأحكام فيها أيضا ذلك الاحتمال، والحق أنه لا يكاد يفتح باب قبول الشرائع ما لم يسد هذا الباب.
ولا يجدي نفعا كون الحكمة المشار إليها بقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ آبية عن بقاء التلبيس فلا أقل من أن يتوقف قبول معظم ما يجيء به النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن يتبين كونه ليس داخلا في باب التلبيس مع أنا نرى الصحابة رضي الله تعالى عنهم يسارعون إلى امتثال الأوامر عند إخباره صلّى الله عليه وسلّم إياهم بوحي الله تعالى إليه بها من غير انتظار ما يجيء بعد ذلك فيها مما يحقق أنها ليست عن تلبيس فافهم والله تعالى الموفق.