إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ على جميع الممكنات عَزِيزٌ غالب على جميع الأشياء وقد علمت حال آلهتهم المقهورة لأذل العجزة، والجملة في موضع التعليل لما قبلها اللَّهُ يَصْطَفِي أي يختار مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا يتوسطون بينه تعالى وبين الأنبياء عليهم السلام بالوحي وَمِنَ النَّاسِ أي ويصطفي من الناس رسلا يدعون من شاء إليه تعالى ويبلغونهم ما نزل عليهم والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، وتقديم رسل الملائكة عليهم السلام لأنهم وسائط بينه تعالى وبين رسل الناس، وعطف مِنَ النَّاسِ على مِنَ الْمَلائِكَةِ وهو مقدم تقدير على رُسُلًا فلا حاجة إلى التقدير وإن كان رسل كل موصوفة بغير صفة الآخرين كما أشرنا إليه، وقيل: إن المراد الله يصطفي من الملائكة رسلا إلى سائرهم في تبليغ ما كلفهم به من الطاعات ومن الناس رسلا إلى سائرهم في تبليغ ما كلفهم به أيضا وهذا شروع في إثبات الرسالة بعد هدم قاعدة الشرك وردم دعائم التوحيد.
وفي بعض الأخبار أن الآية نزلت بسبب قول الوليد بن المغيرة أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: ٨] الآية وفيها رد لقول المشركين الملائكة بنات الله ونحوه من أباطيلهم إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بجميع المسموعات ويدخل في ذلك أقوال الرسل بَصِيرٌ بجميع المبصرات ويدخل في ذلك أحوال المرسل إليهم، وقيل: إن السمع والبصر كناية عن علمه تعالى بالأشياء كلها بقرينة قوله سبحانه: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ لأنه كالتفسير لذلك، ولعل الأول أولى، وهذا تعميم بعد تخصيص، وضمير الجمع للمكلفين على ما قيل: أي يعلم مستقبل أحوالهم وماضيها، وعن الحسن أول أعمالهم وآخرها، وعن علي بن عيسى أن الضمير لرسل الملائكة والناس والمعنى عنده يعلم ما كان قبل خلق الرسل وما يكون بعد خلقهم وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ كلها لا إلى غيره سبحانه لا اشتراكا ولا استقلالا لأنه المالك لها بالذات فلا يسأل جل وعلا عما يفعل من الاصطفاء وغيره كذا قيل، ويعلم منه أنه مرتبط بقوله تعالى:
اللَّهُ يَصْطَفِي إلخ وكذا وجه الارتباط، ويجوز أن يكون مرتبطا بقوله سبحانه: يَعْلَمُ إلخ على معنى وإليه تعالى ترجع الأمور يوم القيامة فلا أمر ولا نهي لأحد سواه جل شأنه هناك فيجازي كلا حسبما علم من أعماله ولعله أولى مما تقدم ويمكن أن يقال هو مرتبط بما ذكر لكن على طرز آخر وهو أن يكون إشارة إلى تعميم آخر للعلم أي إليه تعالى ترجع الأمور كلها لأنه سبحانه هو الفاعل لها جميعا بواسطة وبلا واسطة أو بلا واسطة في الجميع على ما يقوله الأشعري فيكون سبحانه عالما بها.
ووجه ذلك على ما قرره بعضهم أنه تعالى عالم بذاته على أتم وجه وذاته تعالى علة مقتضية لما سواه والعلم التام بالعلة أو بجهة كونها علة يقتضي العلم التام بمعلولها فيكون علمه تعالى بجميع ما عداه لازما لعلمه بذاته كما أن وجود ما عداه تابع لوجود ذاته سبحانه وفي ذلك بحث طويل عريض.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا أي وصلّوا وعبر عن الصلاة بهما لأنهما أعظم أركانها وأفضلها والمراد أن مجموعها كذلك هو لا ينافي تفضيل أحدهما على الآخر ولا تفضيل القيام أو السجود على كل واحد واحد من الأركان، وقيل: المعنى أخضعوا لله تعالى وخروا له سجدا، وقيل: المراد الأمر بالركوع والسجود بمعناهما الشرعي في الصلاة فإنهم كانوا في أول إسلامهم يركعون في صلاتهم بلا سجود تارة ويسجدون بلا ركوع أخرى فأمروا بفعل الأمرين جميعا فيها حكاه في البحر ولم نره في أثر يعتمد عليه، وتوقف فيه صاحب المواهب وذكره الفراء بلا سند وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ بسائر ما تعبدكم سبحانه كما يؤذن به ترك المتعلق وقيل: المراد أمرهم بأداء الفرائض.
وقوله تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ تعميم بعد تخصيص أو مخصوص بالنوافل وعن ابن عباس رضي الله تعالى