ولا تكلمون عادت وجوههم قطعة لحم ليس فيها أفواه ولا مناخر يتردد النفس في أجوافهم»
وأخرج الطبراني والبيهقي في البعث وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد والحاكم وصححه وجماعة عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن أهل جهنم ينادون مالكا ليقض علينا ربك فيذرهم أربعين عاما لا يجيبهم ثم يجيبهم إنكم ماكثون ثم ينادون ربهم ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فيذرهم مثلي الدنيا لا يجيبهم ثم يجيبهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون قال: فما يبس القوم بعدها بكلمة وما هو إلا الزفير والشهيق.
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وغيرهما عن محمد بن كعب قال: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله تعالى في أربعة فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا يقولون: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غافر: ١١] فيجيبهم الله تعالى ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر: ١٢] ثم يقولون: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:
١٢] فيجيبهم الله تعالى: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [السجدة: ١٤] ثم يقولون رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [إبراهيم: ٤٤] فيجيبهم الله تعالى: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم: ٤٤] ثم يقولون: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر: ٣٧] فيجيبهم الله تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: ٣٧] ثم يقولون: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ فيجيبهم الله تعالى: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ فلا يتكلمون بعدها أبدا، وفي بعض الآثار أنهم يلهجون بكل دعاء ألف سنة، ويشكل على هذه الأخبار ظواهر الخطابات الآتية كما لا يخفى ولعلها لا يصح منها شيء وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار والله تعالى أعلم.
إِنَّهُ تعليل لما قبله من الزجر عن الدعاء أي إن الشأن، وقرأ أبي وهارون العتكي «أنه» بفتح الهمزة أي لأن الشأن كانَ في الدنيا التي تريدون الرجعة إليها فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي وهم المؤمنون، وقيل: هم الصحابة، وقيل:
أهل الصفة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا أي هزوا أي اسكتوا عن الدعاء بقولكم رَبَّنا إلخ لأنكم كنتم تستهزئون بالداعين خوفا من هذا اليوم بقولهم رَبَّنا آمَنَّا إلخ حَتَّى أَنْسَوْكُمْ بتشاغلكم بالاستهزاء بهم ذِكْرِي أي خوف عقابي في هذا اليوم.
وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ وذلك غاية الاستهزاء، وقيل: التعليل على معنى إنما خسأناكم كالكلب ولم نحتفلكم إذ دعوتم لأنكم استهزأتم غاية الاستهزاء بأوليائي حين دعوا واستمر ذلك منكم حتى نسيتم ذكري بالكلية ولم تخافوا عقابي فهذا جزاؤكم، وقيل: خلاصة معنى الآية أنه كان فريق من عبادي يدعون فتشاغلتم بهم ساخرين واستمر تشاغلكم باستهزائهم إلى أن جركم ذلك إلى ترك ذكري في أوليائي فلم تخافوني في الاستهزاء بهم، ثم قيل: وهذا التذنيب لازم ليصح قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ إلخ تعليلا ويرتبط الكلام ويتلاءم مع قوله سبحانه: وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ولو لم يرد به ذلك يكون إنساء الذكر كالأجنبي في هذا المقام، وفيه تسخط عظيم لفعلهم ذلك ودلالة على اختصاص بالغ لأولئك العباد المسخور منهم كما نبه عليه أولا في قوله تعالى: مِنْ عِبادِي وختمه بقوله سبحانه: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ إلى قوله تعالى: هُمُ الْفائِزُونَ وزاد في خسئهم بإعزاز أضدادهم انتهى ولا يخلو عن بحث.