للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فليس بعجب أن يحصل من ضروب تركيبات النور بالظلمة هذه الألوان التي نراها فتقع تلك الأقسام في محالها على الوجه المذكور ثم يقع عليها نور آخر بمقابلة المنير.

ومن قال بأن النور عين اللون لم يقل بأن كل نور عين كل لون كما أن من قال بأن الوجود عين الماهية لم يقل بأن كل وجود عين كل ماهية ليلزمه أن لا يطرد وجود على وجود ولا تضاد وجود لوجود فالألوان متخالفة الأحكام وبعضها أمور متضادة لكن بما هي ألوان لا بما هي أنوار كما أن الموجودات متخالفة الأحكام وبعضها أشياء متضادة لكن بما هي ماهيات لا بما هي موجودات مع أن الوجود والماهية واحد، وأما الوجه الثالث فسبيل دفعه سهل بما بين وكذا الوجه الرابع بأدنى أعمال روية فإن عدم ظهور اللون قد يكون لضعف اللمعان الواقع على شيء وقد يكون لشدة اللمعان فالواقع على المقابل من عكس المضيء الملون قد يكون ضوءه فقط وذلك عند قصور الضوء واللون أو قصور استعداد القابل المقابل وقد يكون كلاهما لقوتهما وقوة استعداد المنعكس إليه، على أن الكلام في مباحث العكوس طويل، وكون المنعكس من الجسم المضيء إلى جسم آخر ضوءه دون لونه ربما كان لأجل صقالته فإن الصقيل قد يكون ذا لون وضوء ولكن المنعكس منه إلى مقابله ليس إلا ما حصل من نير آخر بتوسطه على نسبة وضعية مخصوصة بينهما له إليهما لا اللون والضوء اللذان يستقران فيه فالمنعكس في ذلك المقابل ليس إلا الضوء فقط من ذلك النير لا من المنعكس منه إلا أن يكون المنعكس إليه أيضا جسما صقيلا فيقع فيه حكاية منهما أي الضوء واللون أو من أحدهما أيضا.

هذا غاية ما قالوه في النور المحسوس الذي يظهر به الأجسام على الأبصار ولهم في النور إطلاق آخر وهو الظاهر بذاته والمظهر لغيره وقالوا: هو بهذا المعنى مساو للوجود بل نفسه فيكون حقيقة بسيطة كالوجود منقسما كانقسامه، فمنه نور واجب لذاته قاهر على ما سواه، ومنه أنوار عقلية ونفسية وجسمية، والواجب تعالى نور الأنوار غير متناهي الشدة وما سواه سبحانه أنوار متناهية الشدة بمعنى أن فوقها ما هو أشد منها وإن كان بعضها كالأنوار العقلية لا تقف آثارها عند حد، والكل من لمعات نوره عز وجل حتى الأجسام الكثيفة فإنها أيضا من حيث الوجود لا تخلو عن نور لكنه مشوب بظلمات الإعدام والإمكانات، إذ علمت هذا فاعلم أن إطلاق النور على الله سبحانه وتعالى بالمعنى اللغوي والحكمي السابق غير صحيح لكمال تنزهه جل وعلا عن الجسمية والكيفية ولوازمهما، وإطلاقه عليه سبحانه بالمعنى المذكور وهو الظاهر بذاته والمظهر لغيره قد جوزه جماعة منهم حجة الإسلام الغزالي فإنه قدس سره بعد أن ذكر في رسالته مشكاة الأنوار ومعنى النور ومراتبه قال: إذا عرفت أن النور يرجع إلى الظهور والإظهار فاعلم أن لا ظلمة أشد من كتم العدم لأن المظلم سمي مظلما لأنه ليس بظاهر للابصار مع أنه موجود في نفسه فما ليس موجودا أصلا كيف لا يستحق أن يكون هو الغاية في الظلمة.

وفي مقابلته الوجود وهو النور فإن الشيء ما لم يظهر في ذاته لا يظهر لغيره، والوجود ينقسم إلى ما للشيء من ذاته وإلى ما له من غيره، فما له الوجود من غيره فوجوده مستعار لأقوام له بنفسه بل إذا اعتبر ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض وإنما هو وجود من حيث نسبته إلى غيره وذلك ليس بوجود حقيقي، فالوجود الحق هو الله تعالى كما أن النور الحق هو الله عز وجل، وقد قال قبل هذا. أقول ولا أبالي إن إطلاق اسم النور على غير النور الأول مجاز محض إذ كل ما سواه سبحانه إذا اعتبر ذاته فهو في ذاته من حيث ذاته لا نور له بل نورانيته مستعارة من غيره ولا قوام لنورانيته المستعارة بنفسها بل بغيرها ونسبة المستعار إلى المستعير مجاز محض، وفسر النور في هذه الآية أعني قوله تعالى:

اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بذلك، ثم أشار إلى وجه الإضافة إلى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بقوله: لا ينبغي أن

<<  <  ج: ص:  >  >>