للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العزيز الغفار وتفردها بالفرد الجبار إلى غير ذلك، وجعل بعضهم التشبيه من المركب الوهمي بناء على أن المراد من النور المشبه الهدى من حيث إنه محفوف بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم.

وكان الظاهر على هذا دخول الكاف على المصباح دون المشكاة المشتملة عليه، ومن هنا قيل إن في الآية قلبا، ووجه بعضهم دخولها على المشكاة بأن المشتمل مقدم على المشتمل عليه في رأي العين فقدم لفظا ودخل الكاف عليه رعاية لذلك، وقيل إنه على هذا أيضا تشبيه مفرق لأنه شبه الهدى بالمصباح والجهالات بظلم استلزمتها وهو كما ترى.

ومن الناس من جعل التشبيه مفرقا لكن بنى كلامه على ما أسسه الفلاسفة فجعل النور المشبه ما منح الله تعالى به عباده من القوى الخمس الدراكة المترتبة التي نيط بها المعاش وهي القوة الحساسة أعني الحس المشترك الذي يدرك المحسوسات بجواسيس الحواس الخمس الظاهرة والقوة الخيالية التي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاء والقوة العقلية المدركة للحقائق الكلية والقوة الفكرية التي تأخذ المعارف العقلية فتؤلفها على وجه يحصل به العلم بالمجهولات والقوة القدسية التي يختص بها الأنبياء والأولياء وتنجلي فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت، وجعل ما في حيز الكاف عبارة عن أمور شبه بكل منها واحد من هذه الخمس فقال: شبهت القوة الحساسة بالمشكاة من حيث إن محلها تجويف في مقدم الدماغ كالكوة تضع فيه الحواس الظاهرة ما تحس به وبذلك يضيء، وشبهت القوة الخيالية بالزجاجة من حيث إنها تقبل الصور المدركة من الجوانب كما تقبل الزجاجة الأنوار الحسية من الجوانب ومن حيث إنها تضبط الأنوار العقلية وتحفظها كما تحفظ الزجاجة الأنوار الحسية، ومن حيث إنها تستنير بما يشتمل عليها من المعقولات، وشبهت القوة العقلية بالمصباح لإضاءتها بالإدراكات والمعارف وشبهت القوة الفكرية بالشجرة المباركة من حيث إنها تؤدي إلى نتائج كثيرة هي بمنزلة ثمرات الشجرة، واعتبرت زيتونة لأن لها فضيلة على سائر الأشجار من حيث إن لب ثمرتها هو الزيت الذي له منافع جمة، منها أنه مادة المصابيح والأنوار الحسية وله من بين سائر الأدهان خاصة زيادة الإشراق وقلة الدخان، واعتبار وصف لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ في جانب المشبه من حيث إن القوة الفكرية مجردة عن اللواحق الجسمية أو من حيث إن انتفاعها ليس مختصا بجانب الصور ولا بجانب المعاني، وشبهت القوة القدسية بالزيت الذي يكاد يضيء من غير أن تمسسه نار من حيث إنها لكمال صفائها وشدة استعدادها لا تحتاج إلى تعليم أو تفكر. واعترض بأن حق النظم الكريم على هذا أن يقال: مثل نوره كمشكاة وزجاجة ومصباح وشجرة مباركة زيتونة وزيت يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار حتى يفيد تشبيه كل واحد بكل واحد. وأجيب بأنه لما كان كل من هذه الحواس يأخذ ما يدركه مما قبله كما يأخذ المظروف من ظرفه أشار سبحانه إلى ذلك بأداة الظرفية دلالة على بديع صنعه سبحانه وحكمته جل شأنه.

وجوز أن يراد تشبيه النور المراد به القوة العقلية للنفس بمراتبها بذلك ومراتبها أربع، الأولى أن تكون النفس خالية عن جميع العلوم الضرورية والنظرية مستعدة لها كما في مبدأ الطفولية وتسمى القوة العقلية في هذه المرتبة بالعقل الهيولاني لأنها كالهيولى في أنها في ذاتها خالية عن جميع الصور قابلة لها، وثانيتها أن تستعمل آلاتها أي الحواس مطلقا فيحصل لها علوم أولية، وتستعد لاكتساب علوم نظرية وتسمى القوة المذكورة في هذه المرتبة عقلا بالملكة لحصول ملكة الانتقال إلى النظريات لها بسبب تلك الأوليات، وثالثتها أن تصير النظريات مخزونة عندها وتحصل لها ملكة استحضارها متى شاءت من غير تجشم كسب جديد وتسمى تلك القوة في هذه المرتبة عقلا بالفعل لحصول تلك العلوم لها بالقوة القريبة من الفعل، ورابعتها أن ترتب العلوم الأولية وتدرك العلوم النظرية مشاهدة

<<  <  ج: ص:  >  >>