والظاهر أنه متعلق بخلق وهو أوفق بالمقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام، وتنكير الماء هنا وتعريفه في قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء: ٣٠] لأن القصد هنا إلى معنى الإفراد شخصا أو نوعا والقصد هناك إلى معنى الجنس وأن حقيقة الماء مبدأ كل شيء حي فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحيات والسمك وتسمية حركتها مشيا مع كونها زحفا مجاز للمبالغة في إظهار القدرة وأنها تزحف بلا آلة كشبه المشي وأقوى، ويزيد ذلك حسنا ما فيه من المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين، ونظير ما هنا من وجه قوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: ١٠] على رأي وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالإنس والطير وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالنعم والوحش.
والظاهر أنه المراد أربع أرجل فيفيد إطلاق الرجل على ما تقدم من قوائم ذوات القوائم الأربع وقد جاء إطلاق اليد عليه وعدم ذكر من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب وأم أربع وأربعين وغير ذلك من الحشرات لعدم الاعتداد بها مع الإشارة إليها بقوله سبحانه: يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ أي مما ذكر ومما لم يذكر بسيطا كان أو مركبا على ما يشاء من الصور والأعضاء والحركات والطبائع والقوى والأفاعيل. وزعم الفلاسفة أن اعتماد ما له أكثر من أربع من الحيوان إنما هو على أربع ولا دليل لهم على ذلك. وفي مصحف أبي ومنهم من يمشي على أكثر وهو ظاهر في خلاف ما يزعمون لكنه لم يثبت قرآنا، وتذكير الضمير في مِنْهُمْ لتغليب العقلاء، وبني على تغليبهم في الضمير التعبير بمن واقعة على ما لا يعقل قاله الرضي، وظاهر بعض العبارات يشعر باعتبار التغليب في كُلَّ دَابَّةٍ وليس بمراد بل المراد أن ذلك لما شمل العقلاء وغيرهم على طريق الاختلاط لزم اعتبار ذلك في الضمير العائد عليه وتغليب العقلاء فيه، ويفهم من كلام بعض المحققين أن لا تغليب في مِنْ الأولى والثالثة بل هو في الثانية فقط، وقد يقال:
لا تغليب في الثلاثة بعد اعتباره في الضمير فتدبر. وترتيب الأصناف حسبما رتبت لتقديم ما هو أعرف في القدرة ولا ينافي ذلك كون المشي على البطن بمعنى الزحف مجازا كما توهم، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتفخيم شأن الخلق المذكور والإيذان بأنه من أحكام الألوهية، والإظهار في قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي فيفعل ما يشاء كما يشاء لذلك أيضا مع تأكيد استقلال الاستئناف التعليلي لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ أي لكل ما يليق بيانه من الأحكام الدينية والأسرار التكوينية أو واضحات في أنفسها، وهذا كالمقدمة لما بعده ولذا لم يأت بالعاطف فيه كما أتى سبحانه به فيما مر من قوله تعالى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا [النور: ٣٤] الآية، ومن اختلاف المساق يعلم وجه ذكر إِلَيْكُمْ هناك وعدم ذكره هنا.
وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته بتوفيقه للنظر الصحيح فيها والتدبر لمعانيها إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل إلى حقيقة الحق والفوز بالجنة وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ شروع في بيان أحوال بعض من لم يشأ الله تعالى هدايته إلى صراط مستقيم وهم صنف من الكفرة الذي سبق وصف أعمالهم. أخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنها نزلت في المنافقين وروي عن الحسن نحوه،
وقيل نزلت في بشر المنافق دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف ثم تحاكما إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فحكم لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه عليه الصلاة والسلام وقال: نتحاكم إلى عمر رضي الله تعالى عنه فلما ذهبا إليه قال له اليهودي:
قضى لي النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يرض بقضائه فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ فقال: نعم فقال: مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل رضي الله تعالى عنه بيته وخرج بسيفه فضرب عنق ذلك المنافق حتى برد وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت
، وقال جبريل عليه السلام: إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي لذلك الفاروق، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.