فقد أخرج النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنا نغدو إلى المسجد فمررنا يوما ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قاعد على المنبر فقلت: حدث أمر، فجلست فقرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ الآية، فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنكون أول من صلى، فصليناهما، ثم نزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فصلى للناس الظهر يومئذ.
وروى أبو داود عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون نحو بيت المقدس، فلما نزلت هذه الآية مرّ رجل ببني سلمة فناداهم وهم ركوع في صلاة الفجر نحو بيت المقدس، ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة فمالوا كما هم ركوعا إلى الكعبة،
فما ذكر مخالف للروايات الصحيحة الثابتة عند أهل هذا الشأن فلا يعول عليه. وقرأ أبي «تلقاء المسجد الحرام» وهي تؤيد القول الأول في شَطْرَ كما لا يخفى وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ عطف على فَوَلِّ وَجْهَكَ ومن تتمة إنجاز الوعد- والفاء- جواب الشرط لأن حَيْثُ إذا لحقه ما الكافة عن الإضافة يكون من كلم المجازاة، والفراء لا يشترط ذلك فيها، و (كان) تامة- أي في أي موضع وجدتم- وأصل ولوا وليوا فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان فحذف أولهما وضم ما قبل الياء للمناسبة- فوزنه فعوا- وهذا تصريح بعموم الحكم المستفاد من السابق اعتناء به إذ الخطاب الوارد في شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عام حكمه ما لم يظهر اختصاصه به عليه الصلاة والسلام، وفائدة تعميم الأمكنة- على ما ذهب إليه البعض- دفع توهم أن هذه القبلة مختصة بأهل المدينة، وقيل: لما كان الصرف عن الكعبة لاستجلاب قلوب اليهود وكان مظنة أن لا يتوجه إليها في حضورهم أشار إلى تعميم التولية جميع الأمكنة أو يقال: صرح بأن التولية جهة الكعبة فرض مع حضور بيت المقدس، ولأهله أيضا لئلا يظن أن حضور بيت المقدس يمنع التوجه إلى جهة الكعبة مع غيبتها فليفهم. وقرأ عبد الله «فولوا وجوهكم قبله» .
وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي من اليهود لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي التحويل أو التوجه المفهوم من التولية الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ لا غيره لعلمهم بأن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم لا يأمر بالباطل إذ هو النبي المبشر به في كتبهم وتحققهم أنه لا يتجاوز كل شريعة عن قبلتها إلى قبلة شريعة أخرى، وأما اشتراك النبي صلّى الله عليه وسلّم وإبراهيم عليه السلام في هذه القبلة فلاشتراكهما في الشريعة على ما ينبىء عنه قوله تعالى: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [البقرة: ١٣٥] ، ووقوفهم على ما تضمنته كتبهم من أنه صلّى الله عليه وسلّم يصلي إلى القبلتين، والجملة عطف على قَدْ نَرى بجامع أن السابقة مسوقة لبيان أصل التحويل وهذه لبيان حقيته قيل: أو اعتراضية لتأكيد أمر القبلة وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ اعتراض بين الكلامين جيء به للوعد والوعيد للفريقين من أهل الكتاب الداخلين تحت العموم السابق المشار إليهما فيما سيجيء قريبا إن شاء الله تعالى وهما من كتم ومن لم يكتم، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي تعملون بالتاء فهو وعد للمؤمنين، وقيل: على قراءة الخطاب وعدلهم، وقراءة الغيبة وعيد لأهل الكتاب مطلقا وقيل: الضمير على القراءتين لجميع الناس فيكون وعدا ووعيدا لفريقين من المؤمنين والكافرين.
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ عطف على وَإِنَّ الَّذِينَ بجامع أن كلا منهما مؤكد لأمر القبلة ومبين لحقيته والمراد من الموصول الكفار من أولئك بدليل الجواب ولذا وضع المظهر موضع المضمر ومن خص ما تقدم بالكفار جعل هذا الوضع للإيذان بكمال سوء حالهم من العناد مع تحقق ما ينافيه من الكتاب الصادح بحقية ما كابروا في قبوله بِكُلِّ آيَةٍ وحجة قطعية دالة على أن توجهك إلى الكعبة هو الحق واللام موطئة لقسم محذوف ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ جواب القسم ساد مسد جواب الشرط لا جواب الشرط، لما تقرر أن الجواب إذا كان القسم مقدما