الالتفات وجواز عطف الإنشاء على الاخبار لا يناسب ذلك وكون الجملة السابقة حالا أو استئنافا بيانيا، والذي اختاره كونه عطفا على مقدر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام فإنه سبحانه لما ذكر وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فهم النهي عن الكفر فكأنه قيل: فلا تكفروا وأقيموا الصلاة إلخ.
وجوز أن يكون انفهام المقدر من مجموع ما تقدم من قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ إلخ، حيث إنه يوجب الأمر بالإيمان والعمل الصالح فكأنه قيل فآمنوا واعملوا الصالحات وأقيموا إلخ، وجوز في أَطِيعُوا أن يكون أمرا بإطاعته صلّى الله عليه وسلّم بجميع الأحكام الشرعية المنتظمة للآداب المرضية وأن يكون أمرا بالإطاعة فيما عدا الأمرين السابقين فيكون ذكره لتكميلهما كأنه قيل: وأطيعوا الرسول في سائر ما يأمركم به، وقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ إلخ منتعلق بالأوامر الثلاثة وجعل على الأول متعلقا بالأخير، وقوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إلخ بيان لمآل الكفرة في الدنيا والآخرة بعد بيان تناهيهم في الفسق وفوز أضدادهم بالرحمة المطلقة المستتبعة لسعادة الدارين، وفي ذلك أيضا رفع استبعاد تحقق الوعد السابق مع كثرة عدد الكفرة وعددهم والخطاب لكل من يتأتى منه الحسبنا نظير ما في قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ [السجدة: ١٢] .
وجوز أن يكون للرسول صلّى الله عليه وسلّم على سبيل التعريض بمن صدر منه ذلك كقوله:«إياك عني فاسمعي يا جارة» أو الإشارة إلى أن الحسبان المذكور بلغ في القبح والمحذورية إلى حيث ينهى من يمتنع صدوره عنه فكيف بمن يمكن ذلك منه كما قيل في قوله تعالى: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: ١٤، يونس: ١٠٥، القصص: ٨٧] فقول أبي حيان: إن جعل الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم ليس بجيد لأن مثل هذا الحسبان لا يتصور وقوعه منه عليه الصلاة والسلام ليس بجيد لما فيه من الغفلة عما ذكر ومحمل الموصول نصب على أنه مفعول أول للحسبان وقوله تعالى:
مُعْجِزِينَ ثانيهما وقوله تعالى فِي الْأَرْضِ ظرف لمعجزين لكن لا لإفادة كون الإعجاز المقصود بالنفي فيها لا في غيرها فإن ذلك غني عن البيان بل لإفادة شمول عدم الإعجاز لجميع أجزائها أي لا تحسبنهم معجزين الله تعالى عن إدراكهم وإهلاكهم في قطر من أقطار الأرض بما رحبت وإن هربوا منها كل مهرب. وقرأ حمزة وابن عامر «يحسبن» بالياء آخر الحروف على أن الفاعل كل أحد كأنه قيل لا يحسبن حاسب الكافرين معجزين له عزّ وجلّ في الأرض وضميره صلّى الله عليه وسلّم لتقدم ذكره عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وإليه ذهب أبو علي.
وزعم أبي حيان أنه ليس بجيد لما تقدم ليس بجيد أو ضمير الكافر أي لا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين، ونقل ذلك عن علي بن سليمان أو الموصول والمفعول الأول محذوف كأنه قيل: لا يححسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين في الأرض، وذكر أن الأصل على هذا لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول وكأن الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت كالشيء الواحد اقتنع بذكر اثنين عن ذلك الثالث، وتعقبه في البحر بأن هذا الضمير ليس من الضمائر التي يفسرها ما بعدها فلا يجوز كون الأصل (لا يحسبهم الذين) إلخ كما لا يجوز ظنه زيد قائما، وقال الكوفيون مُعْجِزِينَ المفعول الأول وفِي الْأَرْضِ المفعول الثاني، والمعنى لا يحسبن الذين كفروا أحدا يعجز الله تعالى في الأرض حتى يطمعوا في مثل ذلك، قال الزمخشري: وهذا معنى قوي جيد، وتعقب بأنه بمعزل عن المطايقة لمقتضى للمقام ضرورة أن مصب الفائدة هو المفعول الثاني ولا فائدة في بيان كون المعجزين في الأرض. ورد بأنه وإن كان مصب الفائدة جعل مفروغا منه وإنما المطلوب بيان المحل أي لا يعجزوه سبحانه في الأرض والانصاف أن ما ذكر خلاف الظاهر، والظاهر إنما هو تعلق فِي الْأَرْضِ بمعجزين وأيا ما كان فالقراءة المذكورة صحيحة وإن اختلفت مراتب تخريجاتها قوة وضعفا، ومن ذلك يعلم ما في